ولم تتوقف التحليلات والتأويلات ومحاولات الغمر واللمز حول هذا الملف، كونه يرتبط بمستقبل حركة مقاومة انخرطت لاحقا فى العمل السياسى، فباتت محط أنظار العالم، الذى راح يتساءل عما يحدث داخلها من تفاعلات، وزاد البعض فاعتقدوا أن هذه التفاعلات يمكنها أن تتحول إلى صراع على السلطة (كما يزعم البعض ويروِّج آخرون)، بصورة يفهم منها القريبون من الحركة والمتابعون لنشاطها والمقّيمون لمسيرتها أن هناك من يحاول الدفع بحماس إلى مساحات رخوة لا يمكنها أن تنجر إليها أبدا.
وثمة ثوابت مهمة تنير الطريق لحركة حماس (وقياداتها وكوادرها فى هذا الشأن)، التى نشأت أساسا لمقاومة الاحتلال وتحرير كامل التراب الفلسطينى من البحر إلى النهر، يتصدر هذه الثوابت أقوال الشيخ المؤسس للحركة، الشهيد أحمد ياسين، الذى ظل يرى فيها "حركة مجاهدة.. علنية وسرية.. ما هو مفهوم للناس فهو علنى، وما هو غير مفهوم للناس فهو سرى.. وحركة مجاهدة لا يمكن أن تكشف للناس كل أوراقها وكل ما عندها، لكنها تعمل بالشورى والنظام الصحيح...".
و يمكننا أن ننسى فى هذا الشأن أنه لم يُضبط أىٌّ من القيادات التاريخية (أو حتى القيادات الوسيطة للحركة)، متلبسًا بالبحث عن موقع أو ساعيًا لمنصب، ارتباطا بالتربية والروابط الروحية بين حماس وجماعة الإخوان المسلمين فى مصر، ما أكسبها مناعة داخلية، وجعلها تعمل منذ البدايات الأولى ثم النشأة (فى السادس من ديسمبر عام 1987) وفقا للقاعدة المعروفة بين الإخوان، ألا وهى أن "طالب الولاية لا يُوَلَّى".
وثالثا، أن حركة حماس التى اكتسبت زخمها ووضعها المميز بين حركات المقاومة على مستوى العالم، بسبب الهدف الذى نشأت من أجله، لا يمكنها التخلى بسهولة عن هذه المكانة والانسياق خلف صراعات ومغانم، تتنافى تمامًا مع أفكارها كحركة مقاومة إسلامية-وطنية، كونها تعى جيدا دقة وحساسية موقفها فى خضم صراعات وتشابكات داخلية وإقليمية وخارجية منذ اكتساحها الانتخابات التشريعية الفلسطينية (مطلع عام 2006)، التى تعاطت معها فى السابق بمنطق الخطاب السياسى وفعل المقاومة، بينما تتفاعل معها حاليا من منطلق القابض على جمرة القرار السياسى.
وأخيرا وليس آخرا بالطبع أن قيادات وكوادر الحركة لديهم قناعة بأن الانشغال بالهم العام (ميدانيًّا.. سياسيًّا.. اجتماعيًّا) داخل قطاع غزة تحديدًا، يفرض على حماس نمطًا معينًا فى إدارة شئونها الداخلية، لا مجال فيه للتنازع والصراعات.. كما أن المواجهة المستمرة مع الاحتلال والأوضاع الصعبة التى تعيشها الحركة فى ضوء هذه المواجهة، لا يمكنها أن تُنتج هذه الحالة من الرفاهية، لكنها تنسحب على حركات وتنظيمات أخرى (داخل وخارج فلسطين) تتبنى فى الظاهر مقاومة الاحتلال، بينما قادتها يتقاسمون المناصب والأموال وينسقون أمنيًّا مع الاحتلال (!)، فهل يمكن أن تنزلق حماس إلى هذه الهاوية، وهى التى تؤمن بأن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلى "صراع وجود وليس صراع حدود"؟ ما يعنى مشروعية الجهاد بأنواعه وأشكاله المختلفة لإتمام هدف تحرير فلسطين.
هذا عن الوضع العام، فماذا عن المنتج السياسى.. أقصد مستقبل رئاسة المكتب السياسى للحركة؟
يعى الرئيس الحالى للمكتب السياسى لحماس، خالد مشعل (أبو الوليد)، وأصغر كادر فى حماس حقيقة مهمة؛ تتمثل فى خضوع الجميع (بلا استثناءات أو اعتبارات) للمؤسسات والأطر القيادة للحركة، والخضوع لرأى الجماعة، واحترام إرادتها والنزول عند قرارها المدروس دائما.
والمؤكد أن طرح اسم "أبو الوليد" مجددا لاستمرار فى قيادة الحركة لم يكن وليد لحظة تعاطف مع شخصية كاريزمية أعطت من وقتها ومجهودها الكثير لحماس، ليس على امتداد الـ16 عاما التى قضاها (بالتوافق الداخلى) رئيسا للمكتب السياسى للحركة، لكن للتقييم الصارم لهذه المسيرة من مؤسسات حماس، التى يتصدرها بالطبع مجلس شورى الحركة (يتراوح من 50 إلى 70 عضوًا يمثلون الحركة فى فلسطين - قطاع غزة.. الضفة الغربية.. السجون الإسرائيلية- والخارج).
وقد دارت مناقشات مستفيضة بشأن هذا الملف داخل مجلس الشورى العام لحماس، باعتباره أعلى سلطة رقابية وتشريعية داخل الحركة؛ إلى جانب أنه يمثل الهيئة الدعوية العليا، التى توفر الإسناد الشرعى لنشاطات وقرارات حماس الحركية والسياسية ووضع السياسات العامة وإقرار خطط عمل مؤسساتِها وهيئاتِ الحركة المنتخبة، فضلا عن تصديه لمناقشة القوانينَ واللوائحَ التى تحكمها وتنظم عملها.
وقد كشفت المناقشات داخل المكتب السياسى الـ"معنى برسم سياسات حماس وتمثيلها فى العلاقات الخارجية والتفاوض باسمها فى كل الملفات التى تتعلق بإدارة العلاقات الفلسطينية-الفلسطينية، وكذلك التعامل مع الحكومات والمنظمات العربية والإسلامية، فضلا عن الجهات الرسمية والشعبية فى العالم"، عن ترجمة صادقة لطبيعة العلاقات الداخلية فى حماس، ما يعد استمرار للمثالية (النسبية) لهذه الحركة المباركة، وليس هناك دليل يؤكد إنكار الذات والزهد فى المواقع التنظيمية بين قيادات الحركة، من عملية التسليم والتسلم التى تمت بين مؤسس المكتب السياسى لحركة حماس، أول رئيس له منذ عام 1989، الدكتور موسى أبو مرزوق، الذى أعاد بناء الحركة (بعد الضربة الشاملة التى تلقتها آنذاك، على خلفية اعتقال الشيخ المجاهد أحمد ياسين وعدد كبير من قادة الحركة ونشطائها فى الداخل، وتفكيك أجهزتها العسكرية والأمنية، إلى أن جرى اعتقاله فى الولايات المتحدة عام 1995 لمدة عامين)، ما دفع خالد مشعل إلى إعادة تشكيل المكتب السياسى وإجراء الانتخابات فى العاصمة الأردنية (عمان) عام 1996، حيث تم تعيينه رئيسًا للمكتب وانتخابه لأربع دورات لاحقة حتى الآن، كانت خلالها العلاقة بين مشعل-أبو مرزوق (وكذلك كل قيادات الحركة فى الداخل والخارج) نموذجًا للاحترام والتقدير والجهاد المشترك من أجل قوة حماس فى مواجهة الاحتلال، ومواجهة مؤامرات الداخل والخارج.
ومن واقع العلاقة الشخصية يجب التأكيد فى ثنائية العلاقة بين قيادات حماس فى الداخل والخارج، أن هناك حالة خاصة فى إدارة الحركة؛ بعيدًا عمَّا يروِّجه البعض من حسابات، مفادها أن الداخل يمتلك ورقة التنظيم ويتحكم فى القرارات الميدانية، بينما الخارج لديه ورقة العلاقات الخارجية والتمويل، حيث توزيع الأدوار القيادية والتنفيذية والمهمات يخضع لعملية منضبطة، تحكمها أوضاع وظروف المقاومة، كما أنها محكومة بنظام الشورى الذى استمدته حركة حماس من التربية والإدارة التنظيمية لجماعة الإخوان المسلمين، نجحت قيادات حماس فى تطويره وتطويعه حتى يتناسب مع الشأن الفلسطينى وظروفه الصعبة فى مواجهة الاحتلال، ما جنَّب الحركة أزمات تنظيمية، كان يمكن أن تعطل مسيرتها وتضعفها أمام العدوان الإسرائيلى المستمر.
وقد كشف الاحتفال بذكرى الانطلاقة الـ25 لحركة حماس عن حجم الافتراءات والادعاءات التى تلاحق قادة الحركة؛ حيث لا انقسامات أو خلاف محتدم فى قيادة الحركة على رئاستها.. بل كان الاحتفال إشارة مهمة على عافية ووحدة الحركة، ولا أذيع سرًّا عندما أقول إن قيادات الحركة فى الداخل والخارج بذلوا جهدًا عظيمًا فى إقناع "مشعل" بالاستمرار فى قيادة الحركة للدورة المقبلة، لـ"مصلحة الحركة".
وفى هذا الشأن جرى طرح مبادرات داخلية وخارجية لإقناع "مشعل" بالاستمرار فى موقعه، حيث يبدو الداخل الفصائلى متمسك بوجوده "كونه شخصية توافقية ومحل إجماع داخلى وخارجى"، وعلى صعيد الداخل الحمساوى لا أكتم سرا عندما أؤكد أن نحو معظم أعضاء مجلس شورى الحركة يدعمون بقاء "مشعل"، وهو الحال نفسه بالنسبة لقيادات وكوادر الحركة فى القطاع والضفة والسجون والخارج.
وقد دفعت هذه الحالة الشقيقة الكبرى مصر للدخول على خط الأحداث، حيث جرى ممارسة ضغوط على "مشعل" من مستويات ثلاث: الرئاسة المصرية.. جماعة الإخوان المسلمين (وجناحها السياسى ممثل فى حزب الحرية والعدالة)، فضلا عن الدعم الشعبى والحزبى الذى يحظى به "مشعل" فى مصر، ومن مصر يمكن تتبع سلسلة الضغوط التى تحاول إثناء "مشعل" عن قراره لاسيما من تركيا وقطر والسودان، ودولا عربية وإسلامية أخرى.
مضمون المبادرات المطروحة تؤكد أن ضرورات التجديد والتغيير والحرص على مبدأ التداول على القيادة (سواء داخل حماس كما بقية الحركات والتنظيمات، بل والدول أيضا)، قد تكون مبررة بسبب الفشل أو التخاذل أو فقدان القدرة على القيادة، وعندها يصبح التمسك بالمنصب (أو الموقع) مطمع ومغنم، إنما إذا كانوا من أصحاب الإنجازات والشعبية ولديهم القدرة على توحيد الصف الوطني فلا شي في ذلك.
بقلم: إبراهيم الدراوى
مدير مركز الدراسات الفلسطينية بالقاهرة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت