القدس بين تفريط الكامل وإهمال المسلمين الكامل

بقلم: د.عبد الحميد جمال الفراني

القدس بين تفريط الكامل وإهمال المسلمين الكامل
تعيش القدس اليوم أسوء حالاتها منذ أن حررها قطز من المغول التتار عام 658هـ /1260م، حيث الاعتداءات مستمرة، والاحتلال ماض في سياسته العنصرية تجاه المدينة المقدسة، وهدم الأقصى أضحى قاب قوسين أو أدنى، وخاصة بعد عرض الإعلام الصهيوني فيلمًا عن زوال قبة الصخرة وظهور الهيكل، كل ذلك تحت مرأى ومسمع العالم المتحضر دون أن نشهد أو نسمع عن أي تحرك ملموس حتى من ذوي القربى ممن يعنيهم أمر مسرى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فالإهمال والتهميش واضحان بجلاء، فالكل - وفق التخطيط الصليبي الممنهج - منشغل بما لديه من هموم، فمصر الأقرب والأكثر اهتماما بأمور فلسطين والقدس، والتي انطلق منها صلاح الدين فاتحا للقدس، تعيش في معمعة ما بعد الثورة، وسوريا التي انطلق منها نور الدين محمود موحدا للأمة تترنح الآن في أتون الحرب بين الثوار من جهة، والجيش النظامي من جهة ثانية، أما العراق مقر الخلافة العباسية والتي لطالما اعتنت بالقدس، وصكت في زمن المأمون أول عملة للخلافة الإسلامية كتب عليها اسم القدس، ترزح تحت الاحتلال الأمريكي، وتعاني ويلات الطائفية، وقِس عليه حال الأمة جميعا، هذا هو حال القدس، وموقف الأمة منها في زماننا.
تأتي تلك المقدمة الطويلة لتنقلنا إلى ذكرى مؤلمة عاشتها القدس في ظروف مشابهة؛ لكنها أقل ضبابية من تلك التي تحياها المدينة المقدسة اليوم، إنها ذكرى تنازل السلطان الكامل محمد الأيوبي عن القدس في (22 من ربيع الأول 626هـ/ 18 من فبراير 1229م).
فبعد أن أفلحت السياسة المخادعة التي اتبعها الإمبراطور فريدريك الألماني في استمالة قلب السلطان الكامل، وافق على التنازل عن بيت المقدس، وحقق ما عجز عن تحقيقه ريتشارد البريطاني بجيوشه الضخمة وإمكانياته الكبيرة.
واتفق الفريقان على عقد اتفاقية يافا في تقرير الصلح بمقتضاها بين الطرفين لمدة عشر سنوات، على أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا.
ونصت المعاهدة على أن تبقى مدينة القدس على ما هي عليه، فلا يُجدّد سورها، وأن يظل الحرم بما يضمه من المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأيدي المسلمين، وتُقام فيه الشعائر، ولا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط.
وبعد عقد الصلح اتجه فريدريك إلى بيت المقدس، فدخل المدينة المقدسة في (19 من ربيع الآخر 626هـ = 17 من آذار 1229م)، وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة، ليُتوّج ملكًا على بيت المقدس.
" واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه - يسر الله فتحه، وعوده إلى المسلمين بمنه وكرمه آمين -" تلك كانت ردة فعل المسلمين آنذاك عما وصفها المؤرخ ابن الاثير.
ويصور المقريزي ما حل بالمسلمين من ألم بقوله: " فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل، وأذّنوا على بابه في غير وقت الأذان.. واشتد الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر الأقطار".
ولما أحس السلطان الكامل أنه تورط مع ملك الفرنج، أخذ يهوّن من أمر تسليم بيت المقدس، ويعلن أنه لم يعط الفرنج إلا الكنائس والبيوت الخربة، على حين بقي المسجد الأقصى على حاله.. غير أن هذه المبررات لم تنطلِ على أحد من الناس.
وظل بيت المقدس أسيرًا في أيدي الصليبيين نحو خمسة عشر عاماً، حتى نجح الخوارزميون في تحريره في 3 من صفر 642هـ/11 أيلول 1244م)...
فكم من كامل في عصرنا ما بين تفريط بالقدس وإهمال متعمد؛ لكن الفرق بين كامل الأمس والكوامل اليوم وهم كُثر، أن اتفاقية الكامل – وأنا هنا لا أدافع عنها- ضمنت في ذات الوقت عدم مهاجمة الصليبين للمسلمين لمدة عشرة سنوات، وعدم قدوم أية حملة صليبية جديدة على بلاد المشرق، وجعلت الكامل يتفرغ لتوحيد الصف الإسلامي من جديد، حيث كانت قوى الدولة الإسلامية التي كان صلاح الدين قد وحدها تحت قيادته قد تفتتت بعد وفاته، وأراد الكامل من عقد هذه الاتفاقية أن يتفرغ لتوحيدها مرة أخرى، ورغم ذلك لم تقبلها الشعوب ولا القادة المسلمين في وقتها، واعتبرت هفوة في تاريخ الكامل الطويل في النضال ضد الصليبيين.
على عكس ما تحياه الأمة اليوم في عصر حكامها الذين لا ينطبق عليهم أن نشبهم بالكامل فنقول عنهم الكوامل، فأي كمال هم فيه، فإن كان الكامل وبسبب فعله الناقص يمكن أن يُطلق عليه الناقص، فماذا عسانا أن نسمي من تخلى عن القدس في زماننا، وترك قطعان المستوطنين، ورعاعهم يرتعون في المسجد الأقصى ويدنسون ساحاته الشريفة، ويسلبون الأراضي، ويشردون سكان القدس، ويمعنون في ارتكاب شتى صنوف الظلم بحق المدينة المقدسة، وحال الأمة في تفكك، وزعمائها في تشرذم!!، وهذا ما لم تفعله اتفاقية الكامل التي أرادت توحيد مصر والشام في الصراع وهو ما ثبت صحته بعد ذلك من مجريات الأحداث.
وحتى مواقف الشعوب الإسلامية، ومواقف علمائها في عصرنا وللأسف الشديد لا ترقى إلى المستوى الذي سمت إليه مواقف العلماء والشعوب الإسلامية في زمن الكامل، فرغم أن موقف الكامل كان موقفاً سياسياً له مبرراته الوقتية آنذاك، فإن علماء وشعوب الأمة لم يسكتوا يصمتوا، ورفضوا ما قام به الكامل رغم ما حققه من مكاسب كان يروم إليها الكامل، فالتفريط بالقدس وتسليمه للأعداء من وجهة نظرهم، ومن رؤيتنا أيضا، لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال مهما كانت المبررات، أو المكاسب، فالتنازل عن القدس أو إهمالها وتركها تلقى ما تلقى هو تفريط بآية من آيات الكتاب الحكيم، وبالتالي فهي كفر بعقيدة المسلمين.
أما في عصرنا فالموقف مما يحدث في القدس ففيه توافق بين الحكام والمحكومين على الإهمال، وترك القدس تلاقي مصيرها المظلم، الذي لا يضئ إلا بوجود توافق على وجوب تحريرها، لا أن نتركها على حالها من الاستيطان والحفريات، والتهجير، والعزل، والجدار.
ومهما يكن من أمر فإن ما فعله الكامل الأيوبي، وأفعال حكام اليوم لا يمكن وصفها إلا بالتخاذل، والتفريط والإهمال، أفعال لا تستحقها المدينة المقدسة، فهي بريئة منها، وهي لا تنتظر منا إلا أن نوحد الصفوف، وننبذ الخلافات، ونتخلى عن الشهوات، ثم ننطلق نحوها فاتحين، مكبرين مهللين، ملبين،: لبيكي يا مدينة السلام فأنتي لا تستحقي منا إلا كل محبة ووئام وسلام، لبيكي يا مسرى نبي الإسلام، يا أرض الأنبياء، ومحشر الأنام.
د. عبد الحميد جمال الفراني

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت