في البداية أود أن أنوه أنني كتبت جزءا كبيرا من هذه المقالة قبل أكثر من عامين , حين تعثرت المصالحة بعد التوقيع على اتفاق القاهرة بين فتح وحماس, ووجدتها لا زالت صالحة للتعديل والنشر , فقررت إعادة كتابتها , بعد ما جرى من حوارات ولقاءات واجتماعات , بين " خذ وهات " على رأي معلقي كرة القدم , دون الخروج بفائدة أو الوصول للهدف , وعلى رأي الكابتن لطيف " الكورة جوال " , ونحن نقول للمتحاورين واللاعبين في ساحتنا الفلسطينية , المهم أن نصل للهدف.
فقد ذكرني وضعنا الفلسطيني الحالي , بذات يوم عقد فيه الزعماء العرب من أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو , قمتهم العربية في صيف الخرطوم الحار على أرض السودان في شهر آب اللهاب بعد شهرين من نكسة أو"وكسة" حزيران , أو هزيمة يونيو 1967 , التي حلت بأمتنا العربية على يد الدولة العبرية , بما أطلق عليه حرب الأيام الستة , أو حرب الساعات الست , ليخرج علينا قادتنا العظام بعد ثلاثة أيام , بلاءاتهم الثلاث الشهيرة , لا صلح .. لا تفاوض .. لا اعتراف بإسرائيل , والدعوة للقتال والنضال حتى التحرير ودحر الاحتلال . ولكن ذهبت هذه الشعارات وتلك اللاءات أدراج الرياح رغم بقاء الاحتلال , وتفاوضنا وتصالحنا واعترفنا بإسرائيل , وبدلا من اللاءات , أصبح بيننا وبين اسرائيل مكاتب تمثيل وسفراء وسفارات .
وفي هذه الأيام زارني صديق قديم كان يوما ماركسيا يساريا , ثم أصبح " قومجيا " عروبيا , كان يحب شعارات الخمسينات والستينات , وحضور الندوات والتجمعات والسير في التظاهرات والصراخ بالهتافات , ودافع عن القومية العربية عقودا طويلة , وكان يؤمن بالوحدة العربية , من الخليج " الثائر" إلى المحيط " الهادر" , أو من الخليج "الفارسي" – أخشى أن تزعل مني إيران نجاد - إلى المحيط الأطلسي , وكان يسبح بحمد جمال عبد الناصر رائد القومية العربية , إلى ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي صاحب شعار " أمة عربية واحدة .. ذات رسالة خالدة ", جاءني غاضبا كافرا بكل ما آمن به في ذلك الزمان , وسب وشتم الشيوعية والاشتراكية , ولعن بحرقة وألم القومية ودعاتها من القومجية , وشن حربا بلا هوادة على كل من يتاجر هذه الأيام بالإسلام " والاسلاموية " وبالقضية الفلسطينية , ويقضي بأفكاره المستوردة من كابول أفغانستان ولاهور باكستان وبلاد فارس إيران , على حلمنا الفلسطيني ومشروعنا الوطني في إقامة دولتنا الفلسطينية , وصرخ بأعلى صوته قررت منذ اليوم أن أكون وطنيا فلسطينيا وكفى . وقد حاولت التخفيف عنه , وامتصاص غضبه الجارف, وقلت له : يا أخي كنا نحلم بدولة فلسطينية واحدة , وها نحن اليوم بدولتين , فبعد أن حررنا دولة غزة بعد انسحاب شارون عام 2005 , وأقمنا دولتنا الأولى على أرضها بعد أن تم فك الحصار , وفتحت المعابر على مصراعيها من رفح إلى بيت حانون , وعبرت السفن أعالي البحر إلى ميناء غزة , وقررنا أخيرا إعادة بناء مطار عرفات الدولي , بينما دولتنا الثانية في الضفة الغربية قائمة وغير قائمة , بعد أن حصلنا على دولة مراقب " غير عضو " في الأمم المتحدة , ولو كانت تحت الاحتلال .
عاتبني صديقي بشدة , وقال لي هل تسخر مني , أم من الحال الذي وصلنا إليه , وهل حقا وصل بنا الحال إلى هذا المآل , ولكل دولة هنا وهناك أزلام ورجال , ولم نعد نحتمل بعضنا , وتركنا عدونا يلهو بنا , وصار بيننا الحوار من المحال , وأصبحت المصالحة في خبر كان , وباتت المصارحة بيننا مصارعة ومطارحة , وأصبحنا بحاجة إلى وسيط , في هذا الزمن العبيط , لنجلس إلى طاولة المفاوضات , لنطرح الملاحظات والمستدركات والمحددات , لكل نقطة أو كلمة أو حرف , وتصحيح الإعراب والصرف , لكل فاعل ومفعول وظرف , للمكان أو الزمان .. إذن فلنرفع الشعار منذ الآن" لا للمصالحة .. لا لإنهاء الانقسام .. لا للوحدة الوطنية " , فلم يعد بيننا أواصر أخوة , ولا حرمة عرض أو دم , وباتت المصلحة الشخصية والحزبية هي الأهم وسط قدح وذم .
ومع كثرة الاجتماعات , وتدحرج المبادرات من مكة مرورا بالقاهرة وصولا إلى الدوحة , ووسط هذه الدوخة , دعاني صديقي لاجتراح مبادرة , لعلها تزيل النكد والهم , وتعيد وحدة القضية والدم , ولنطرح لاءات ثلاث جديدة , لعلها تكون الناجحة والأكيدة , والخروج من هذه المكيدة , ونقول " لا لفتح .. ولا لحماس .. ولا لكل الفصائل والتنظيمات" , التي باتت هذه الأيام بلا إحساس , ونعم لرأي الأغلبية الصامتة من الناس , الذين يبيتون ليلهم بدون غطاء , ولا سروال أو" لباس".
فقلت له يا صديقي , والله مبادرتك عظيمة , وستقضي على الأفكار المتعفنة واللئيمة , وستكون عند حسن ظن 99% من الناس , ولكن إذا ما طرحناها هذه الأيام , فمن يضمن لي ولك ألا تقطع سلطة فتح راتبنا , وكيف نعتاش في زمن الجوال الرعاش , ومن يضمن لنا ألا تصدر علينا حماس حكم الرجم أو الإعدام بتهمة معاداة الإسلام , ومن يضمن لنا ألا تشهر بنا الفصائل والتنظيمات , بعشرات البيانات والمنشورات , في المواقع الالكترونية وعلى صفحات الجرائد والمجلات .
أكملنا سهرتنا رغم انقطاع الكهرباء , وأشعلنا شمعة تضئ ظلامنا في جو بارد وحالك , عملا بالقول المأثور " أن تضئ شمعة لمرة , خير من أن تلعن الظلام ألف مرة " , على الرغم ما يجره إشعال شمعة هذه الأيام , من حرائق تأتي على الأطفال والنساء والناس نيام .
دردشنا بعد ذلك في كل المواضيع, ما عدا السياسة , من مباريات " البارشا والريال , إلى عودة الدوري المصري دون جمهور, إلى كسر الحصار وتصدير الفراولة والزهور , وفضلنا السكوت والكياسة , على ردة الفعل السابقة و" التياسة ", وقررنا عدم طرح المبادرة , وأيدنا الشعار المطروح هذه الأيام في كل الندوات والاجتماعات , أن ما يجري بين فتح وحماس هو " حوار الطرشان " , وأنه لا مصالحة ولا وحدة وطنية في المدى المنظور للعيان , وكفى الله المفكرين شر السجون والزنازين والمعتقلات .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت