الجزء الرابع
الدرس الثامن: العبرة بالمضامين وليس بالأشكال والأحجام
عدم الإستهتار بصغائر الأمور والأشياء
لا تُحقرنَّ صغيراً في مخاصمةٍ إن البعوضة تُدمي مقلةَ الأسدِ
من يريد أن يتعرف على أسرار الخلق، ويصل متيقناً الى معرفة الخالق والإيمان به، فليتأمل المخلوقات الحقيرةالدقيقة صغيرة الحجم، التي ترى بالعين المجردة، وما تحتها من الفيروسات والفطريات والبكتيريا التي لا ترى بالعين المجردة، وما فوقها من التي ترى بالعين المجردة صغيرة منها متدرجة بالكبر، وكبيرة متعاظمة بالكبر. وليتأمل في قول الله تعالى رداً على اليهود حينما قالوا أن ما يجيء به محمد من كلام فيه ذكر للحيوانات الحقيرةلذلك فهو ليس من وحي الرسالات السماوية التي تترفع عن ذكر الحيوان مثل الذباب والعنكبوت التي ضرب الله بها أمثالاً، وإننا لا نعبد إلهاً يذكر هذه الحيوانات الخسيسة الدنيئة الضارة، وجاء الرد بقوله تعالى:
"إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما قوقها"
ومن سياق الآية يُستنتج أن هنالك من الحيوانات ما هو تحت البعوضة، بمعنى ما هو أصغر منها حجماً لا يرى بالعين المجردة، وهذا ما توصل اليه العلم بعد إكتشاف الميكروسكوب (المجهر)، حبث أكتشفت البكتيريا والفيروسات التي لا ترى بالعين المجردة والمسببة للأمراض، ولو ضرب الله مثلاً بما هو أقل من البعوضة لما أحس به الناس في ذلك الوقت من الجهل والتخلف، ولكن الله في بداية الدعوة أراد أن يضرب للكفار مثلاً محسوساً بأصغر الحيوانات التي ترى بالعين المجردة، وهي البعوضة الصغيرة الضارة على الرغم من ضعفها بنيوياً، حيث قال تعالى في موضعٍ آخر "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الاّ العالمون".والعالمون هم العلماء الباحثون والمتأملون والمتفكرون بخلق الله.
البعوضة وما أدراك ما البعوضة!
هذا الحيوان الصغير الحقير الذي لا يتعدى طوله بضع مليمترات، قد تسبب في قتل الملايين من البشر وذلك بنقل الأمراض اليهم، ومن أهم الأمراض التي ينقلها مرض الملاريا، والحمى الصفراء، وحمّى الضنك، ومرض الفلاريا (داء الفيل)، وحمّى الوادي المتصدع،هذه الأمراض التيعانى منها وذهب ضحيتها الملايين من الناس قبل اكتشاف الطعم والعلاج، كما أن جيوشاً انتصرت على أعدائها الأقوياء، ولكنها لم تنتصر على غزو البعوض لها. حيث أن الإناث منه تمتص دم الإنسان والحيوان ليس من أجل الغذاء ولكن لتزويد بويضاتها بالبروتين اللازم لنمو اليرقات، فهي تتغذى على رحيق الأزهارالذي يخلو من البروتين، فتعوضه من دم الإنسان والحيوان ، ولا يملك الإنسان النائم والحيوان القائم أو النائم إزاءها أية مقاومة تستطيع ردعها عن لسع الإنسان أو الحيوان، لأسرار تعود الى فطرتها وتكوينها الفسيولوجي، فهذا الحيوان عجيب في خلقه ولكن لماذا؟
البعوضة لها أجهزة تنفسية وهضمية وتناسلية وعصبية ودورة دموية، لا بل تفوق الإنسان في عدد أجهزتها الوظيفية لتساعدها على تخطي الصعاب نتيجة لضعف بنيتها وصغر حجمها. ثبت بالفحص المجهري أن للبعوضة ثلاثة أجنحة في كل طرف مزودة بنظام حراري يعمل مثل نظام الأشعة تحت الحمراء إذ يعكس لون الجلد البشري في الظلام الى اللون البنفسجي كي تراه البعوضة، ولها مئة عين في رأسها، وثمان وأربعون سناً، ولها ثلاثة قلوب، قلب مركزي في الصدر، وقلب في أجنحة كل طرف، وفي كل قلب بطينان وأذينان، ولها ستة سكاكين في خرطومها، أربعة سكاكين تحدث جرحاً مربعاً، وسكينان يلتئمان على شكل أنبوب ليدخل الدم الى جسمها، وتملك حاسة شم قوية، إذ تشم رائحة عرق الإنسان على بعد 60 كيلومتر، ولها جهاز تخدير في خرطومها حيث تفرز أنزيماً تخدر به مكان اللسع على جسم الإنسان، فلا يحس بها عندما تلسعه، ولكنه يحس بإلتهاب الجرح فيما بعد نتيجة سحب الدم وعدم تعقيم الجرح الذي تتركه، وفي خرطومها جهاز يفرز أنزيماً لتمييع الدم ومنع تخثره ليخفف من لزوجته لكي يمر الى بلعومها والى جسمها، كما أنها تميز الدم الملائم لها، فبعض الأجسام تجذب البعوض اليها وبعضها لا تقترب منه لأنها بحساسيتها الحرارية تدرك عدم ملائمته لها.
هذه المواصفات الخلقية المذهلة في البعوضة الضعيفة الحقيرة دالةٌ على عظم الخالق، الذي أتقن كل شيءٍ خلقه، وأن كل شيءٍ خلقه هو آية من آياته جديرة بالتفكر والتأمل، وبالتسبيح والتكبير لمن خلقها. وعليه فإن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً بكل شيءٍ خلقه، وما خلق الله شيئاً بدون هدف ووظيفة يؤديها. ففي كل شيءٍ خلقه آية دالة عليه.
وضرب الله مثلاً بكبار الحيوانات التي كانت تعيش بينهم في الصحراء آنذاك، ويعتمدون عليها في غذائهم وكسائهم، وفي حلهم وترحالهم، وهي الإبل حيث قال تعالى:"أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت".
لينظروا وليتفكروا كيف أن الله خلق تلك الإبل بمواصفات وفطرة تتماشى مع البيئة التي تعيش فيها،حيوان صبور كتوم على الجوع والعطش، له سنام يحفظ فيه طعامه ليعوضه عند شح الغذاء في الصحراء، يتغذى على نباتات الصحراء الشوكية الجافة، له أخفاف منبسطة وكبيرة المساحة وذلك لتوزيع ثقله على مساحة أكبر لكي لا يغوص بالرمال،وله قوائم وأرجل طويلة تساعده على السير فوق الرمال حيث يتركز ثقله عالياً بعيداً عن الأرض لتخفيف قوة الجاذبية الأرضية، ولحمايته من الغوص بالرمال الرخوة والمتحركة،وآذان صغيرة لكي لا تجمع الرمل المتطاير، وعنق طويل منحنِ ليتناسب مع طول أرجله وقوائمه، وحليب إناثها غني بالماء حيث يقي من العطش وغني بالمعادن والفيتامينات المنوعة ليعوض قاطني الصحراء من البشر عن عدم تناول الفواكه الشحيحة بالصحراء. حيوان طويل كبير الحجم لكنه سهل القيادة والتحكم والسيطرة، على الرغم من كبر حجمه وقوته، يقوده ويروضه طفل صغير، فيأتمر بأوامره، وينتهي بنواهيه، يقيمه ويقعده ويسيره كيفما شاء. لكنه لا يرحم إن استفز وفقد أعصابه وهاج. فإن أوذي يحقد ويصر الظلم في نفسه ويضمر في نفسه الحقد والإنتقام، وينتقم لكرامته عندما تحين له الفرصة المناسبة، ولو بعد حين، ويقتل بلا هوادة من ظلمه وأهانه من البشر.
الدرس التاسع: الإرتباط بالمكان وبالعائلة (الوطنية والقومية)
الحيوان وطني وقومي بفطرته، حيث يعشق المكان الذي يولد ويترعرع فيه، وإن تركه فإنه يتركه سعياً في مناكب الأرض ليلملم رزقه من خشاش الأرض في هجرة مؤقتة ومبررة، وفي النهاية ومهما غاب يعود الى موطنه ومكانه الذي يألفه، ومعظم الحيوانات قومية بفطرتها، تحب العائلة التي تنتمي إليها، وتدافع عنها، وتسعى في الأرض قطعاناً عائلية ملتحمة متعاونة متضامنة ومتحابة. تتقاسم الغنائم والأطعمة والمسئولية وخاصة المسئولية الأمنية للقطيع، تأتمر بأوامر القيادة المنتخبة بحيادية ونزاهة على أسس الكفاءة، وتنتهي بنواهيها، ومن خرج عن السرب وشذعنه ربما يتعرض للهلاك.
فلو أخذت قطة وأبعدتها عن موطنها مئات الكيلو مترات، فسوف تتفاجأ أنها عادت الى موطنها ومكانها الذي ألفته في غضون أيام. وعائلة الأسود مثلاً تمتلك منطقة جغرافية ولا تسمح للغرباء من فصيلتها بالإقتراب منها، وتدافع عنها بشراسة ضد الغرباء المعتدين من بني جلدتها.
وكما قال الشاعر العراقي مظفر النواب في قصيدته "القدس عروس عروبتكم"
فاذئبة حتى الذئبة تحرس نطفتها
الكلبة تحرس نطفتها
والنملة تعتز بثقب الأرض
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت