الأصوليات قامت على أهواء وتصورات استيهامية، وعلى عداء صارخ للعقل، ولهذا يستحيل التعاطي معها عقلانيا. ولكي تفهمها بحق، لابد أن تذهب إلى حيث تكمن غرائزها، بل لابد أن تتجاوز ذلك إلى تاريخ هذه الغرائز، إلى حيث كانت (أجيالها الفريدة) تتصارع على السلطة؛ بمبررات ترفع راية الجهاد في سبيل الله!
عندما نتحدث عن الأصوليات - وخاصة في سياق الصراع على السلطة -، فإننا لا نزعم أنها وحدها التي تمتلك كل هذا العشق الجنوني الذي يهوي بها وبمجتمعاتها إلى دركات جحيم الاحتراب، وإنما نتحدث عنها بوصفها حراكا فكريا وتنظيميا يرفع شعارات الترفع عن المدنس الدنيوي، والزهد فيه، وتجاوزه إلى ضفاف المقدس الأخروي، إلى عالم غير هذا العالم المدنس المحكوم بقوانين الطمع والجزع والبؤس والشقاء.
الإخوان (وحلفاؤهم من التقليديين المتدروشين على النقليات الأثرية، أولئك الذين دخلوا حديثا في مضمار التنظيم الحزبي الذين كانوا - من قبل - يرونه محض زيغ وابتداع وضلال)، لا يزعمون أنهم متجردون من كل أنواع الإحالة على مسارات عالم الغيب، ذلك العالم الذي لا يستطيع عالم الشهادة الحكم عليه، فضلًا عن التحكم فيه، وإنما يدّعون أصالة الانتماء إليه، والانشداد إلى طرفي التقابل بين ثنائية الدنيا والآخرة، وأن ما في الدنيا للآخرة، وما في الآخرة محفّز لما في الدنيا، بحيث يتم تشطير الرؤية، ومن ثم تشطير الفعل - دوافع ونتائج - بين عالمين مختلفين أشد ما يكون الاختلاف.
في مصر، تحالف - أو توافق - الإخوان مع السلفيين التقليديين - مرحليا - من أجل الاستحواذ على مفاصل السلطة على حين غفلة من جماهير الغوغاء التي افترستها ثقافة الجهل والتجهيل.
لا ضير في هذا التحالف من وجهة النظر السياسية؛ حتى وإن كان لبعض التقليديين رؤيتهم الخاصة في هذا التحالف المبني - وفق تصورهم - على تنازلات جذرية في أصول الاعتقاد الراسخة في أدبيات التقليديين.
هذا التحالف التوافقي هو حق سياسي، تضمنه اللعبة الديمقراطية بشتى صورها؛ لو لم يكن الادعاء الشعاراتي معقوداً من هؤلاء وهؤلاء على ما هو أبعد من عالم الشهادة الذي يزعمون الزهد فيه؛ ولو لم يظهر - من تجليات الفعل، قبل تجليات القول - ما يناقض هذا الزعم، ويكشف عن حقيقة أن موضوع الزهد هو موضوع الطمع، وأن القلب - بشهادة الواقع - يهفو بالود العميق إلى حيث الصدود المُدّعى، فكأنما يمتثلون قول الأحوص:
يا بَيت عاتكة الذي أتغزّل
حَذَرَ العِدا وبه الفؤاد مُوَكّلُ
إني لأمنحُك الصدودَ وإنني
قَسماً إليك مع الصدود لأمْيَلُ
لم يكن الزهد / الصدود إلا خداعا مكشوفا، وخاصة بعدما ظهرت دلائل العشق المستعر، العشق المغرم بكل ما يمت إلى المعشوقة / السلطة بصلة من قريب أو بعيد . فالمُتَيّمون - وخاصة بعدما دخلوا حرمها المقدس - لم يستطيعوا السيطرة على سلوكياتهم الإرادية، فضلا عن اللاإرادية ؛ فظهروا وكأنما أقصى الآمال أن يظفروا منها ولو بوهم وصال.
من أجل عينيها الساحرتين يخوض الجميع غمار التحالفات رغم كل العداوات التي كانت تعصف بأجمل تصورات الإخاء. اتفقوا ؛ رغم افتراقهم المتشظي - فِرَقاً - إلى ما لا نهاية، بحيث بدت الصورة تمثيلا واقعيا للتصور الذهني (وليس الواقعي) عن جيل النقاء والصفاء!
حتى يتم هذا الحِلف / الوفاق ؛ مارس كل فريق أقصى ما يمكن من صور التغاضي والتغافل والتناسي والتجاهل لما كان ولما ينبغي أن يكون. مشى الوفاق على جسر من الزيف المتفق عليه ضمنيا؛ حتى ظن كثيرون - من خارج المشهد - أنه سينتهي بعقد قِران كاثوليكي بين تيارين طالما اتفقا على الخلاف واختلافا على الوفاق !.
اليوم، وبعيداً عن كل أنواع التنازلات التي قدمها - ويقدمها - كلا الفريقين؛ جراء انسياق طبيعي للشرط السياسي، بحيث غدا الحلال حراماً، والحرام حلالًا، (والتي تكشف عن عشق جنوني للسلطة)، نستطيع أن نلمح حتمية الصراع بين المتحالفين؛ لأن السلطة التي باتت معشوقة هذا وذاك، لم - ولن - تخلص لهذا ولا لذاك، مع أن كلاً منهما يريد الاستحواذ على قلبها الجامح، ويطمع فيها بمبررات (الوجد) لا بمبررات (الجدارة)، وهي لا تعشق إلا ذاتها؛ في الوقت الذي تُذيب فيه قلوب العاشقين.
بشيء غير قليل من البهجة الممزوجة بالرثاء الصادق؛ أراقب هيام الإخوان بالسلطة، وتمنعها عليهم إلى درجة الصد المشوب بالنفور؛ بعدما كانت البدايات تعد بأنهما سيكونان سِرّين في خاطر الظلماء، وبعدما فتحت لهم ذراعيها ساعة من نهار لم تعكره سحب الأهواء المتصارعة، فكأنما أسمع هاتف العشق الإخواني يهتف بقول ابن زيدون:
كأنّنا لم نَبِت والوصل ثالثنا
والسعد قد غَضَّ من أجفان واشينا
انتظر الناس من الإخوان أن تكون السلطة في أيديهم وسيلة لا غاية، أن تكون أعينهم على ما وراء السلطة / المعشوقة، وليس على السلطة ذاتها، وأن يجاهدوا في سبيل التنمية، وتعزيز قيم السلام الأهلي، وتوفير ما يضمن كرامة الإنسان، كغايات عليا تتلاشى في سبيلها توافه الغايات، فحدث عكس ما توقعه بسطاء الناس، إذ بدا لهم - بعد لأي - أن لكُلٍّ وِجْهة هو مُوليها في مضمار العشق الأرعن، وأن للناس فيما يعشقون مذاهب.
طال الانتظار من قبل هؤلاء البسطاء الذين لا يطمعون بما هو أبعد من وعود المرشحين، وطال المطال من عشاق السلطة المغرمين بدلّها ودلالها.
يُلحّ الناخبون الذين منحوا أصواتهم للمرشح الإخواني على ممثلي حكومة الإخوان بضرورة تحويل بوصلة الاهتمام إلى حيث الميادين الخدمية التي كانت محل الوعود الوردية، بينما هوى الإخوان يستعر - جنونا - في ميدان آخر. تتصاعد درجة الإلحاح من قبل الناخبين، ويطول العذل، فما يكون من الإخوان إلا المراوغة، أو المجازفة بالاعتذار الضمني، ولسان حالهم هو لسان العاشق العذري : جميل بثينة، الذي لم يعرف الجهاد إلا في ميدان الحب، فيقول :
يقولون جاهد يا جميل بغزوة
وأيّ جهاد غيرهُنّ أريد
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل بينهن شهيد
يريد الناس من الإخوان أن يتجردوا من عشق السلطة ولو إلى حين، فإذا بالسلطة تأخذ بألبابهم، فلا يرون الجهاد إلا في سبيلها، ولا الشهادة إلا الموت - ولو حزناً - من أجل امتلاكها روحا وجسدا. إنهم يطمعون فيما هو أبعد من امتلاك جسد السلطة العاري، يريدونها بكل تضاريس الجسد الفاتنة، وبكل مناخات الروح المُلهمة، يريدونها بكل أهوائها الباطنة وبكل تأوهاتها الظاهرة، بكل مشاعرها الصادقة وغير الصادقة، المباشرة واللامباشرة . وهي - بالمقابل - تتأبى بدلال، وتراوغ بمكر، وتتكبر عليهم بقسوة من تثق بعمق أهواء العاشقين لها، بينما هم لا يغضبون ولا يسأمون ولا ييأسون، بل لا يزيدهم هذا الصدود المتكبر، والتمنع المُتجبر، إلا وَلَهاً عاصفا، وشغفا قاصدا، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون؛ إلا رجوع أسارى الهوى المستسلمين لقول محمود درويش :
تكبّر.. تكبّر !
فمهما يكن من جفاك
ستبقى بعيني ولحمي ملاك
وتبقى كما شاء لي حبنا أن أراك
وإذا ما أضناهم التمنع، وبلغت بهم قسوة التكبر مداها، وأرادوا أن يبثّوا حبيبة القلب بعض شكواهم؛ لعل وعسى، فأقصى ما يعترضون به على ما تفعله بهم، أن يهمسوا لها - مُخْبتين مُتبتلين- بقول امرئ القيس :
أغرّك مني أن حُبّك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يَفعلِ
لم يظفروا بالوصل - هذا الوصل المتمنع المتقطع - إلا بعد تاريخ من الهجر طويل. وحتى حينما أشرقت شمس الأمل، وحانت ساعة الوصال، لم تمنحهم إلا ما يبعث على الوله المسعور.
إنها اليوم معهم مانحة مانعة، تجود لهم بشيء وتمنعهم أشياء، فهي كما قال بشار بن برد :
ضَنّت بخَدٍّ وجلت عن خدّ
ثم انثنت كالنَفَس المُرتَدّ
أو كما قال قيس بن الخطيم :
تَبَدّت لنا كالشمس دون غمامة
بدا حَاجبٌ منها وضَنّت بحاجبِ
ويشاء عشق السلطة أن يترك كل هؤلاء العاشقين صرعى الهوى بعد كل خطابات الزهد فيها، بل وبعد كل خطابات الهجاء لها، تلك الخطابات التي كانت تفتش وتفتش عن تخبطات العاشقين لها من غير أتباع الأصوليات؛ لتثبت أن كل العاشقين في ضلال مبين. بينما هم اليوم يقتلهم الهوى بمحو كل إرادة لا ترى في العشق مصدر إلهامها؛ فلا يعترفون بموتهم على يديها حتى يكونوا حرضا أو يكونوا من الهالكين.
الأصوليون الوصوليون لم يصلوا إلى العتبات المقدسة لقلب المحبوبة الأسمى والأغلى إلا بعدما دَبّ اليأس إلى حنايا القلوب الولهى، فكادت تلك القلوب أن تكون هشيما تذروه الرياح .
لم تسمح لهم بتقبيل يديها البضتين على هَنٍ وهَنٍ ؛ إلا بعدما قالوا أُوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا.
جاءتهم (الخلافة!) لم تجرر - مُنقادة - أذيالها، جاءتهم بعدما خالطتهم وساوس اليأس، وكادوا يقنطون من رحمة الله. جاءتهم بعد يأس فكأنما يقولون :
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنّان كل الظَنّ ألا تلاقيا
منذ أكثر من ثمانين عاما، وهوى السلطة قد خالط شغاف الروح لهذه الجماعة التي وُلدت بهوى سلطوي. والتقليديون - رغم تواريهم خوفا وخداعا - هم أقدم عشقا وأشد ولهاً .
إنه هوى شبت عليه الأهواء وشابت عليه، فلا تزيده الأيام إلا رسوخا ونماء، إنه هوى بدأ من البدايات الأولى؛ فكان كهوى جميل بثينة :
علقت الهوى منها وليداً فلم يَزل
إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
وأفنيت عمري في انتظار وعودها
وأبليت فيها الدهر وهو جديد
نعم، فنيت أعمار ثلاثة أجيال - وربما أربعة - من الإخوان، وهم في انتظار وعودها بالتمكين. شاب الغراب ولم تشب الآمال الجامحة؛ رغم عذابات السنين العجاف بين المنافي والمعتقلات.
تبدلت الأهواء، ونَقّل العاشق فؤاده حيث شاء من الهوى، قليلا هنا، وقليلا هناك، ولكن أثبتت الأيام أن الحب ليس إلا للحبيب الأول، فكيف إذا كان هو الحبيب الأول والآخر ؟!
إنه ليس عشقا قديما فحسب، بل هو عشق المستقبل، عشق نِزَاري، عشق يكسب عمق هويته المستقبلية من عمق ماضيه. أبديّته هي إحدى تجليات هويته. بين ماض وحاضر، تتشرعن أبدية العشق. ولهذا يقفون في محرابها خاشعين، يقولون لها كما يقول نزار قباني :
سوف أحِبُّكِ
عند دخول القرن الواحد والعشرينَ
وعند دخول القرن الخامس والعشرينَ
وعند دخول القرن التاسع والعشرينَ
وسوفَ أحبُّكِ
حين تجفُّ مياهُ البَحْرِ
وتحترق الغابات
بدون مركزية وأبدية هذا العشق، تبهت هُوية الأصوليات، ولا تستطيع حتى تبرير وجودها. ولهذا، إما أن تنتحر بتقديم كل أنواع التنازلات على مستوى المبادئ والقيم (كما هي حال الإخوان في مصر وتونس، والأحزاب السلفية)، وإما أن تنتحر بجنون الغضب الأحمق على كل من يحاول سلبها السلطة أو إرادة السلطة (كما في طالبان والقاعدة).
في مصر، رضي التقليدي السلفي من الإخواني بأن يكون رسولا بين محب وحبيب، على اعتبار أنها (= المعشوقة) له أو لأخيه الذئب. لكن، أفسدت الأمانات عينيها، فكانت كما قال المتنبي عن رسوله إلى محبوبته الذي خانه لّما فتنه جمالها :
كلّما عاد من بعثت إليها
غارَ مني وخان فيما يقول
تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو
قِ إليها والشوق حيث النحول
الحب هو استئثار، وبدونه فلا حب . الحب لا يقبل الشراكة بحال. وهكذا، رأينا التقليدي مع الإخواني في صراع على الفاتنات في حرم الجمال السلطوي.
على مدى أكثر من ستة أشهر من العلاقة التعاضدية بين الإخوانيين والتقليديين جرت أهوال وأهوال. ومع هذا، لم يعترض التقليدي على أي منها، لم يعترض على نكث المواعيد، لم يعترض على الإعلان الدستوري الدكتاتوري، لم يعترض على محاصرة المحكمة الدستورية العليا، لم يعترض على قتل المتظاهرين، لم يعترض على السحل وانتهاك الأعراض، لم يعترض على الفشل الذريع في كل شيء. لكن، وبمجرد أن تم إبعاده عن مهوى العشق الأبدي المتمثل في السلطة وملحقاتها، جرت الدموع أنهاراً كما لم تجرِ من قبل، فكأنه كثير عزة إذ يقول :
وما كنتُ أدري قبل عزة ما البكا
ولا موجعات القلب حتى تَوَلّتِ
لا شيء غيرها يستحق البكاء عليه !. وهذا ما أدركه أرباب الهوى؛ فرأينا المستشار التقليدي يذرف الدموع حزناً وكمدا على إبعاده من منصب وهمي لا يشكل إلا وهم سلطة.
لا غرابة، كل العشاق يبكون على أوهامهم أكثر مما يبكون على واقعهم. والعشق جنون بقدر ما هو فنون.
لا يغرك أن الإخوان يُسفّهون التقليديين، ولا أن التقليديين يُضَلّلون الإخوان، بل ولا أن بعض تياراتهم تكفرهم صراحة أو ضمنا. يمكن أن يختلفوا في كل شيء، وبكل مستويات الخلاف، ولكن لا خلاف على هوى مشترك، لولاه لم ترق دمعاً على طلل!
نلوم هؤلاء وهؤلاء على هذا العشق الذي يأخذ البلاد والعباد إلى المهالك. نخاطبهم بلغة العقل فنلوم ونعذل. ربما نحن نعذل ونلوم لأننا لا نفهم، أو لم نجرّب هوى السلطة تخيلا أو حقيقة .
وإذا كان الأمر كذلك، ألا يحق لهؤلاء العاشقين أن يستقبلوا نقدنا العاذل بقول البحتري :
بودي لو يهوى العذول ويعشق
فيعلم أسباب الهوى كيف تعلق
أو قول المتنبي :
وعذلت أهل العشق حتى ذقته
فعجبت كيف يموت من لا يعشق
بل ربما كان المتنبي أقدر على توصيف الحال في قوله من قصيدة أخرى :
يا عاذل العاشقين دع فئة
أضلها الله كيف تُرْشِدها
لا تستطيع أن ترشد من تَتَملّكه أهواؤه، وليس للعقل عنده مجال.
الأصوليات قامت على أهواء وتصورات استيهامية، وعلى عداء صارخ للعقل، ولهذا يستحيل التعاطي معها عقلانيا. ولكي تفهمها بحق، لابد أن تذهب إلى حيث تكمن غرائزها، بل لابد أن تتجاوز ذلك إلى تاريخ هذه الغرائز، إلى حيث كانت (أجيالها الفريدة) تتصارع على السلطة؛ بمبررات ترفع راية الجهاد في سبيل الله!..
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت