حول حملة مكافحة التخابر

بقلم: ماجد هديب


في سياق حملتها الأمنية المتواصلة التي قامت بها وزارة الداخلية في الحكومة المقالة لمكافحة التخابر،فان خطباء مساجد غزة كانوا قد أشاروا لتلك الحملة في خطبة الجمعة من حيث أهميتها. وهذا التناغم بين وزارتي الأوقاف والداخلية ووزارات أخرى في الحكومة المقالة، هو مؤشر جيد حول الشراكة في العمل الأمني, وقد بات من المؤكد أنه دون تحقيق الشراكة فيما بين الجهات الرسمية من جهة , وفيما بينها وبين الجهات غير الرسمية والمجتمع الأهلي والمدني من جهة أخرى، فلا يمكن تحقيق أدنى درجات الأمن والوقاية من الجريمة. فكيف هو الحال إذن حيال جريمة خطيرة تمس أمن الوطن والمجتمع والإنسان الفلسطيني على السواء، إن لم تكن أخطر الجرائم على الإطلاق.

الخلاف أو الاختلاف مع منهج الحكومة المقالة وأجهزتها، لا يحول دون تسجيل الإعجاب في تدابيرها ودعم هذه التدابير طالما استهدفت المصلحة العليا للوطن. ولا يحول أيضاً دون تسجيل النقد البناء انطلاقاً من منطق الشراكة في الوطن. وعلى هذا الأساس تجب الإشادة بحملة مواجهة التخابر ودعمها، ورفدها بكل الوسائل التي من شأنها التصدي لهذه الظاهرة الإجرامية الخطيرة والحد منها والحيلولة دون تحولها إلى مشكلة تضاف لكم المشاكل الكثيرة التي تتهدد أمن المجتمع الفلسطيني. وعلى هذا الأساس أيضاً تجب النصيحة فلا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيهم إن لم يسمعوها.

ولعل من بديهيات القول أن الجريمة بشكل عام هي ظاهرة اجتماعية طبيعية، فحيثما وُجِدت حياة اجتماعية وُجِدت الجريمة. وأي مجتمع خال من الجريمة هو مجتمع يوتيوبي لا وجود له إلا في فلسفة أفلاطون حول المدينة الفاضلة. وبالتالي فليست وظيفة أجهزة الأمن وشركاؤها هي منع الجريمة واستئصالها لأن ذلك غير ممكن على الإطلاق، بل إن وظيفتها هي الحيلولة دون وقوع الجريمة والسيطرة عليها حال وقوعها وإعادتها إلى حدودها الطبيعية. فالوقاية خير من العلاج، والوقاية من الجريمة بمعالجة عواملها معالجة تكاملية أهم من مكافحتها وأقل تكلفة بشرية ومادية.

والتحقيق الفاعل للأهداف الأمنية يتطلب انبثاقها عن سياسة أمنية عليا تندرج تحتها خطة أمنية إستراتيجية متكاملة، تتبلور عنها مجموعة من الخطط الأمنية الفرعية والمرحلية. وعلى افتراض وجود السياسة والخطة الإستراتيجية؛ أو بغض النظر عنهما للظروف الموضوعية المعروفة، يُمكن وضع هذه الحملة المحمودة لمواجهة جريمة التخابر في سياق خطة فرعية أو مرحلية.

ولا تنفصل جريمة التخابر مع العدو عن الجرائم الأخرى؛ تقليدية كانت أم مستحدثة. فجرائم الاعتداء على النفس وما دون النفس وجرائم المخدرات والسطو والسرقة والسلب، وجرائم غسل الأموال والفساد والاتجار بالبشر والجرائم السيبرانية، بعضها أو كلها,وأخرى كثيرة غيرها قد تكون مقدمة لجريمة التخابر إن لم تكن من نتائجها. وبالتالي فإن تركيز العمل الأمني على ظاهرة إجرامية دون أخرى لا يمكن أن يعود بنتائج إيجابية فعالة، بل وأحياناً قد يعود بنتائج سلبية، ولنا من تجارب بعض الدول التي ركزت عملها الأمني على مكافحة الإرهاب دون الاهتمام بمكافحة الظواهر الإجرامية الأخرى جنبا إلى جنب مع تحقيق التنمية الإنسانية خير مثال على ذلك.

وفي ظل تطورات الحياة الاجتماعية والإعلام الاجتماعي الإلكتروني أصبحت الوظيفة الأمنية تكاملية تتضافر لأدائها كافة الأجهزة والمؤسسات الرسمية والاجتماعية، وقبل أن تلتف حول خطة أمنية متكاملة فعلى هذه المؤسسات مجتمعة، الرسمية منها على وجه الخصوص، أن تفي بواجباتها على الوجه الأكمل.

فوفاء كل جهة بواجباتها يشكل الحاجز الأول للحيلولة دون سقوط أي من أبناء شعبنا صيداً ثميناً في شِباك الشاباك، ذلك أن تأدية الأمانات تعزز الانتماء والولاء وتنهض بالتنمية التي تمكن الإنسان الفلسطيني وتقوي من خياراته كإنسان صالح وبناء في المجتمع. والوفاء بالواجبات يتطلب أولاً أن لا تتجاوز مؤسسات الحكومة معايير القانون الفلسطيني في انتقاء القائمين على أداء هذه الأمانات، التي هي في الأصل معايير أرساها رسول البشرية صلى الله عليه وسلم وطبقها خلفائه الراشدون رضي الله عنهم قبل أربعة عشر قرن مثل: الجدارة والكفاءة والنزاهة والأمانة واختيار الأصلح.

أسئلة كثيرة ملحة ومطروحة على الحكومة المقالة فيما يختص بالمجال الأمني لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه سابقاً وحاليا هو ما إذا كانت الحكومة المقالة في غزة قد نفذت ما هو مطلوب منها كما هو حال باقي الحكومات من حيث تطبيق الأمن بمفهومه الراقي؛ أمن الإنسان الصحي والتعليمي والوظيفي والفكري؟.

لقد آن للحكومة في غزة وللقائمين عليها أن تقتنع أن الاستفراد بالقرار والاستئثار بالمسؤوليات لن يحقق أمناً إلا بالمفهوم الضيق للأمن، الذي لن يتخطى في أحسن دلالاته أمن الحزب أو القبيلة أو النخبة الحاكمة؟ , كما آن الأوان أن نعمل على الوقاية من الجريمة قبل ومكافحة عوامل وقوعها بإزالة كافة العوامل الدافعة على وقوعها بشكل مباشر وغير مباشر، فنستحضر مأثرة سيدنا عمر رضي الله عنه عندما عطل الحدود حين تفشت المجاعة وعم الفقر؟. ألم ترى الحكومة والقائمين عليها أن هذا المفهوم الأمني الشائع عربياً كان سببا مباشراً في اندلاع "ثورات الربيع العربي"؟.

وعوداً على بدء فمع إدراكي لأهمية الحملة وحسن نوايا أهدافها وسموها بل وضرورتها، فأظن أن الموعظة الأمنية التي يقدمها رجل الدين من على منبر رسول الله وما تضمنتها من قيم سامية قد لا تلقَ وقعها الكاف في نفس المتلقِ الذي يرى أن صاحب هذه الموعظة ما كان له أن يصعد لهذا المنبر لولا هويته الحزبية. وأظن أيضاً أن الدرس الأمني الذي يقدمه معلم المدرسة ربما لن يجد آذاناً صاغية من قبل طالب مؤمن بأن مهارات مُعلمه ما زالت لا ترقَ لأبجديات المهنة.

وعموما أكاد أجزم بأن العميل المجرم الذي ارتضى أن يكون أداة رخيصة في يد العدو ضد وطنه وأهله لن يردعه هو ومن خلفه الكيان الغاصب سوى تجاوز الانقسام والوحدة وحسن الأداء الحكومي المحترف مهنياً لا فصائلياً، تمهيداً لبلورة سياسة أمنية عليا وخطة إستراتيجية تقي الوطن من جرائم التخابر والجرائم والمهددات كافة. فالوحدة هي أنجع أسلحة الأمن الوطني، وفيها تكمن أسس الأمن الفكري و الأمن الإنساني؛ النفسي والاجتماعي والجنائي.

الوطن يجمعنا وأمنه يوحدنا وان اختلفنا ومن هنا أُقدم تحيتي للحملة والقائمين عليها داعياً الله العلي القدير أن تتكلل جهودهم بالنجاح، متمنياً أن تجد وجهة نظري طريقها في مناشطهم اللاحقة كضابط حقوقي عمل في المجال الأمني لسنوات.