جاذبية التهويل !

بقلم: محمد السودي


التهويل ظاهرة هدّامة وليدة بيئة عصبياتٍ اجتماعية غلبّت دور الفرد على الجماعة ولجت العقول حتى أضحت جزءاً لايتجزأ من الكينونة الشخصية ثم أََسقطت على مسار العمل الوطني بألوان برّاقة ممّا جعل الفجوة تتسع بين النخبة السياسية والقاعدة الشعبية التي تشكّل العامل الحاسم لمقاييس الفشل أو النجاح ، لذلك لم يعد يكترث الشعب الفلسطيني لما يقوله الساسة عن القضايا الجوهرية التي تلامس الحسّ الوطني ، حيث سئموا كل الخطابات المتكررة المتعلقة باستعادة الوحدة الوطنية وانهاء الإنقسام التي تستخدم للإستهلاك المحلي الخادع ، لم يحصل أن عبرّالجمهور العريض عن غضبه حتى الأن على الأقل بشكلٍ صارخ في الشوارع أو الساحات وإن كان الأمر ليس مستبعداً خلال الفترة القادمة إذا مااستمرّ الوضع الراهن على ماهو عليه ، وإنما يتجلى ذلك بوضوح في تجاهل الجمهور لكل النداءات الفصائلية للمشاركة في إحياءالمناسبات الوطنية أو الدعوات التي كان الشعب الفلسطيني يزحف عن بكرة أبيه لحظة استشعاره بالخطر الذي يهدّد مشروعه الوطني دون الحاجة إلى دعوات من أحد ، حدث ذلك في الماضي والحاضر كما في المستقبل لواستعاد الجمهور ثقته المفقودة بكل مايجري حوله وهذا يتطلب مراجعة شاملة للأداء الوطني العام برمتّّـه يتيح المجال أمام استعادة الزخم الشعبي إلى سابق عهده .
شاهدت بأم العين عدد الذين شاركوا فعالية إحياء ذكرى يوم الأرض الخالد عند معبر قلنديا بوابة القدس إلى مدينة رام الله هذه المناسبة التي تعتبرعلامة فارقة في سفر الكفاح الوطني الفلسطيني دفاعا عن أرض الأباء والأجداد المهددة بالمصادرة لصالح إقامة المستوطنات الاستعمارية والتشبث بالهوية الوطنية بكونها انطلقت شرارتها من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 ، إذ لايتجاوزعدد الذين لبّوا الدعوة المائة شخص رغم الوعود الفصائلية في الغرف المغلقة عن أهمية هذه المناسبة العظيمة بينما غابت فصائل كلياً عن الحضور، في حين ظهر متضامن أجنبي لفت أنظار الجميع كان يشقّ طريقه بثبات نحو طابور الجنود المدججّين بالسلاح والعتاد رافعاً علم فلسطين لوحده"واقول لوحده"يهتف فيفا فلسطين ، وسط عدد من الرايات الفصائلية المتواضعة وأيضاً وسائل الإعلام الحاشدة قبل أن يصبّ جنود الإحتلال جام حقدهم الدفين على المشاركين ويمطرونهم بقنابل الغاز والرصاص المطاطي ، والمفارقه هنا تكمن في سرعة إصدارالبيانات التي تحدثت عن إصابات اختناق عديدة جراء استنشاق الغازفي صفوف المشاركين وجلّهم من القيادات السياسية أو الوجوه المعروفة للإعلام مع التقدير الكبير لحضورهم ، صورة التهويل هذه التي تفطر القلب تعبّر عن النموذج البسيط لحالة التخبط والعجز التي وصلت اليها الأمور وباتت مجال تندّرٍ واستهجان.
إن المبالغة في التقديروهي الرديف الطبيعي الملازم للتهويل لايمكن لها رسم سياسات موضوعية ناجحة تتناسب طرداً مع القدرة الذاتية للأفراد وبالتالي تسلك التنظيمات ممراّ إجبارياّ لإعادة انتاج نفسها بدلاً من تجديدها ضمن ظروف غير ناضجة سوف تؤدي حتماً إلى التدمير الذاتي عند أول اختبار حقيقي قد تواجهها وقد يلاحظ المرء من غير عناء أوجه التشابه الكبير بين الحركات والأحزاب السياسية الوطنية بغض النظرعن الحجوم والأنظمة الديكتاتورية الأحادية الحاكمة التي غيبّت العملية الديمقراطية الحقيقية من أجل تمسكها بالسلطة عقود طويلة من الزمن لاتنتهي إلا في حالة الأجل المحتوم ، يعود ذلك الترويض الفكري إلى تعميم ثقافةٍ خاطئة مزدهرة في عالمنا العربي حول البديل للقائد الضرورة الذي إن غاب عن المشهد السياسي دخلت البلاد في غياهب المجهول ، مع ان وقائع الحياة اليومية تثبت كل يوم أنها ماضية دون توقف عند حدود الأشخاص الزائلون عاجلا أم أجلا لأي سبب كان ، السؤال البديهي الذي يطرح نفسه بقوة إذا كانت حال المعارضات الحزبية حال الأنظمة السائدة أو على هامشها فما الداعي لنشوء هذه الحركات الثورية والتنظيمات الحزبية التي وجدت لأجل التغيير نحو مستقبل أفضل خالٍ من الظلم والإضطهاد الطبقي غير تحقيق مكاسب ذاتية على حساب العملية الوطنية ؟.
لقد أهدر وقت ثمين أعوام من الإنتظار لعلّها تكون كافية للعودة إلى جادّة الصواب والتراجع عن النظرة الضيقة الأفق من أجل مكاسب فئوية تكاد تكون نتائجها مدمرة للمشروع الوطني الفلسطيني، بينما ينتشر السرطان الإستيطاني الإحتلالي في كل مكان من الأرض الفلسطينية وتقطّع أوصالها وتستباح مقدساتها من قبل مليشيا قطعان المستوطنين وما زالـت المصالحة تراوح مكانها تحت ذرائع مختلفة للتهرب من الإلتزامات التي توافقت عليها الأطر القيادية الفلسطينية وجعلها عرضة للمناورات الإقليمية والدولية الغاية منها تقزيم الحقوق الفلسطينية الثابتة والنيل من مكتسباتها التي تعمدت بالتضحيات الجسام على مدى سنوات الصراع وفي مقدمتها منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني اينما تواجد خدمةً لإجندات ايدلوجية عابرة للحدود ، كل مايحتاج الأمر توفّر إرادة صادقة للتنفيذ ومن أراد من العرب الرسميين المساهمة في الخلاص من هذه الحالة الشاذة عن التقاليد الوطنية الفلسطينية ماعليه سوى الضغط على الطرف المعطل للمصالحة ضمن إطار الأسس المتوافق عليها سابقاً وليس فتح أبواب للمماطلات وتقديم أوراق اعتماد للقوى النافذة في العالم من جديد وترسيخ ازدواجية التمثيل الفلسطيني تحت مسميات قمم مصغرة أو غيرها ، انتهت انتخابات حركة حماس الداخلية وينتظر الشعب الفلسطيني ان تبدأ عملية التنفيذ حسب الجداول الزمنية الموضوعة والإحتكام لصناديق الإقتراع للخروج من دوامة الإنقسام وبالتالي لابد من وقف كافة الحملات الإعلامية التي من شأنها خلق اجواء غير مناسبة كما يتطلب وقف الملاحقات والاعتقالات ومنع السفر واصدار قوانين هي بمثابة "طلبنة التعليم"في قطاع غزه ودلالة على الإنفصال في الوقت الذي يتطلب أقصى درجات الحكمة تمهيدا لأجواء المصالحة الوطنية .
إن القضية الفلسطينية التي تمرّ في أدق وأخطر مراحلها تحتاج الى كافة الجهود لمواجهة التحديات وبناء الذات الفلسطيني على أسس جديدة بعيد ة عن التهويل أو التهوين من أجل حشد كافة الطاقات واستنهاض الحالة الجماهيرية التي تشكّل السياج الحامي للمشروع الوطني في كل مفاصله دون ذلك سيبقى الإحتلال المستفيد الأول من حالة الإنقسام وتنفيذ مخططاته الإستعمارية التي من شأنها تقويض اهداف شعبنا في الحرية والإستقلال والعودة وحرية اسرانا الأبطال الذين يواجهون اقصى انواع التنكيل والتنكر لحقوقهم التي نصت عليها كافة المواثيق الدولية والإنسانية ...
كاتب سياسي

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت