حقيقة ونظرية أثبتت بالتجارب بعد مسلسل النزوح العربي من الأوطان العربية، إبتداءً من الفلسطينيين رواد النزوح واللجوء العربي، ومروراً باللبنانيين والكويتيين والعراقيين والليبيين والسوريين، وعلى الرغم من ريادة الفلسطيني لهذا النزوح واللجوء العربي، وتميزه بالأقدمية والخبرة إلاّ أن مسلسل النزوح واللجوء الفلسطيني ما زال مستمراً، فمع كل نزوح عربي عن وطن عربي فإن للفلسطيني حصة في هذا المسلسل الطويل المرعب، فهو البطل الذي لا يختفي عن كل حلقة من حلقات هذا المسلسل الدرامي المحزن،لإن القضية الفلسطينية هي الجذر الذي غذى وما زال يغذي نبتتة النزوح واللجوء العربي، وهي قميص عثمان الذي يتذرع به النظام العربي كلما تعرض لهزة تهدد وجوده في قمرة القيادة، فيدخل القضية الفلسطينية في خلافه مع شعبه، وبالتالي يتأثر الفلسطينيون المشتتون في الأوطان العربية سلباً بهذه الهزات، ويقحمون في الصراعات العربية العربية بين الأنظمة العربية وشعوبها لخلط الأوراق وإضاعة الموضوع المشتعل بين تلك الأنظمة وشعوبها بحثاً عن حريتها في تشعبات القضية الفلسطينية. فما حصل لفلسطيني الشتات من مصائب وويلات في كل من لبنان والكويت والعراق وليبيا يحصل اليوم لفلسطيني سوريا بحدة أكثر متناسباً مع حداثة الصراع.
من نزح ولجأ من الفلسطينيين انتهى به الأمر خارج الوطن في وطن عربي شقيق، ولعل حاله اليوم يكون درساً لمن بقي متشبثاً بأرضه وبلده ووطنه، ويقولها بملء فيه نصيحة خالصة من قلب خالص لأهلنا على أراضي الوطن سواءً داخل الخط الأخضر أو خارجه، الموت على أرض الوطن خير من النزوح واللجوء الى الحضن العربي الشقيق الشائك الذي هو بمثابة الحضن اللدود، فما عاناه إخوتكم الفلسطينيون بالشتات من معاناة الغربة عن الوطن والأهل، ومن ظلم الأقارب الذي فاق ظلم العدو الصارخ، يظل أهون على النفس من ظلم أبناء العمومة.
لو كان الفلسطيني يعلم بما سينتظره من مذابح وهتك الأعراض في تل الزعتر، وصبرا وشاتيلا وفي اليرموك، وبما ينتظره من إذلال على الحدود العربية، وتعذيب في سجون وأقبية المخابرات العربية وهو يبحث عن وطن ضائع منه، لفضل أن يذبح على تراب وطنه ويدفن فيه. أو يسجن داخل وطنه ويستشهد مرفوع الرأس كالشهيد ميسرة أبو حمدية.
في مرحلة النزوح واللجوء الفلسطيني الآولى عام 1948م، كان النزوح مبرراً بعض الشيء نظراً لحداثة التجربة وبطش عصابات الصهاينة، وتضخيم وتهويل المذابح وهتك الأعراض على السنة الطابور الخامس، ولتفشي الجهل وقلة الوعي الشعبي بحجم المؤامرة، ولأن فلسطين كانت ترزخ تحت الإستعمار البريطاني صاحب فكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين، وفهم الأعداء للمشاعر والنفوس العربية وحساسيتها تجاه العرض، وللوعود العربية بالتحرير والعودة القريبة التي لن تطول، ولهشاشة المنطقة العربية التي كانت كلها تئن تحت الإستعمار، وإعادة التقسيم والتفتيت للتواصل الجغرافي والديمغرافي العربي على أسس ومخططات سايكس بيكو.وحدث ما حدث من نزوح ولجوء كان بالإمكان التخفيف من حدته لولا العوامل التي ذكرت سابقاً.
وفي مرحلة النزوح واللجوء الفلسطيني الثانية عام 1967م لم يكن النزوح واللجوء مبرراً الاّ لفئة قليلة ممن كانوا يعملون خارج الوطن عند وقوع الإحتلال، سواءً كانوا مغتربين في نواحي الأرض أو كانوا جنوداً في في السلك العسكري الأردني. ويبدو أن عدم فهمنا لعدونا واختراقنا لدواخله وعدم تواصلنا مع أهلنا في داخل الخط الأخضر لنفهم منهم عدونا الذي يعيشون في أحشائه، وفهم عدونا لنا واختراقه لدواخلنا وأسرارنا حتى العائلية، والذي يعود لقصور في الوعي بالعمل الوطني أدى الى هذا الكم الكبير من النزوح عن أرض الوطن عام 1967م دون مبرر يعزى لأي سبب الاّ لقلة الوعي السياسي والقصور العقلي والثقافي عن فهم الآفاق الدولية والعربية المحيطة بنا.
واليوم يعيش الفلسطيني نزوحاً من أراضٍ عربية شقيقة لطالما تغنت بالقضية الفلسطينية، ووضعتها في أعلى أولوياتها، ولكنها من أصعب مراحل النزوح الذي ليس له مكاناً للجوء، تلفظهم الأنظمة العربية في العراء على حدود الأوطان العربية، تاركين مكتسباتهم وممتلكاتهم التي حققوها بعرقهم وجهدهم في خدمة الأوطان العربية التي لفظتهم دون وجه حق ودون تهمة محددة، لا يملكون قوت يومهم وفي تغييب إعلامي لوضعهم المأساوي، الى أن تتبرع إحدى دول أمريكا الجنوبية باستقبال عدد منهم، أو توعز اسرائيل لحلفائها لتجنسيهم بجنسيات سويدية أو نرويجية أو استرالية أو كندية مقابل تنازلهم عن حق العودة. فيلجؤو ن غرباء من جديد، ويبدأون بناء حياتهم من الصفر.
لقد كان الخليج العربي متنفساً لفلسطينيي الشتات نظراً لحاجتهم الى البناء والتنمية منذ بداية النكبة الى يومنا هذا، واستوعب الخليج العربي الكثير من الكفاءات الفلسطينية، أما اليوم وبعد أن دخلت التنمية والبنية التحتية مراحلها المتقدمة، وأشرفت على النهاية، وبعد نمو التعليم نمواً مضطرداً في دول الخليج العربي، وبعد أن ازداد عدد الخريجين الخليجيين من المعاهد والجامعات تزايداً مضطرداً مع الوقت، باتت فرص العمل تقل أمام العمالة الوافدة نظراً للمارسة حقهم في توطين الوظائف، لذا سوف يعاني أبناء فلسطينيي الشتات من خريجي الجامعات والمعاهد من البطالة، حيث صرف عليهم أولياء أمورهم الأموال الطائلة بعد أن أقفرت البعثات التعليمية للفلسطينيين من الدول العربية والدول التي كانت صديقة في اوروبا الشرقية، واستنزفوا مداخيل أسرهم. وسوف يتحولون الى أعباءٍ مالية ونفسية على كواهل ذويهم. وبالتأكيد ومهما تجنس الفلسطيني بأية جنسية فلن يستطيع منافسة الأبناء الأصليين في تلك الدولة التي يعيش على أرضها حتى لو كان أكثر تفوقاً وتناسباً مع فرصة العمل.
من هنا يجب أن ندق ناقوس الخطر لمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت ترعى شئون فلسطينيي الشتات، بأن أجيال الجاليات الفلسطينية القادمةوالمشتتة في الدول العربية بالذات والتي تعاني من تردي الإقتصاد والبطالة، سوف يكونون قنبلة موقوتة ستنفجر يوماً ما، ولا بد من إعادة الحيوية لمنظمة التحرير الفلسطينية لتمارس دورها في التنبيه الى خطورة هذا الوضع، والعمل مع الدول العربية المضيفة على حل هذه المشكلة المتوقعة الحدوث. فالفلسطيني يدفع الغالي والنفيس من أجل تعليم أبنائه، حيث ينعدم التعليم المجاني، وفي النهاية يجد ابنه الخريج عاطلاً عن العمل، وعالة عليه. وربما يؤدي ذلك الى مشاكل إجتماعية ونفسية وبالتالي الى تصادم مع أبناء البلد المضيف ونزوح ولجوء جديد.
مهما عانت الشعوب العربية من نزوح ولجوء، فلن تصل درجة معاناتهم الى مستوى معاناة الفلسطيني، فهو شريك معهم في كل نزوح، ويعاني أكثر من معاناتهم لأن الدول العربية أشبعت بنزوح الفلسطيني ولا تريد زيادته في أراضيها حيث وصل في عرفهم الى حد الإشباع مهما اتسعت رقعة أراضيها، ولأن كل عربي نازح ولاجيء سوف يأتي اليوم الذي يعود فيه لأرض وطنه طال به النزوح أم قصر فهو لا يعاني إحتلالاً إحلالياً إستيطانياً، أما الفلسطيني فلا أمل له في الأفق بالعودة الى وطنه، وقد عانى الفلسطيني من ويلات ومصائب النزوح ما تقشعر له الأبدان في غياب وتغييب إعلامي مقصود، ومسلسل النزوح واللجوء الفلسطيني يعج بحكايات مأساوية درامية تفوق الخيال البشري، وتدمى لها قلوب القساة من البشر، سواءً على يد الأعداء، وبقسوة أشد على يد من يدعون أنهم إخوان أو أصدقاء أو جيران.
بورك كل من صمد في وطنه متحدياً قمع الإحتلال، وهنيئاً له على تواجده على تراب وطنه، فبالرغم من معاناته من الإحتلال، الاّ أنه يلجأُ لحضن الوطن الذي هو بمثابة حضن الأم الحنون، يطبب جراحه، وإن قضى فسيقضي شهيداً يحتضنه تراب الوطن، مرفوع الرأس، ومن بعده سيظل ذويه مرفوعي الرؤوس بوالدهم أو شقيقهم أو إبنهم. فتمسكوا بالوطن الذي لا ذل فيه، فممارسة العدو ومحاولة إذلاله تعتبر شرفاً لكل من مورس عليه القمع والذل. ومن كان يعيش خارج الوطن يدرك معنى الإذلال الحقيقي ويتجرعه. فمهما عانى الناس من تردٍ للإقتصاد، فلن تشعر به وأنت داخل وطنك بين أهلك وذويك، كما تشعر به وأنت مغترب عن وطنك وأهلك، فلو زرعت حاكورة بيتك واعتنيت بزيتونتك وعنبتك وتينتك، وحافظت على دجاجاتك من الثعالب ومواشيك من الذئاب، لاستغنيت عن كل منتجات العصر الغذائية المسرطنة. ولكان الكساد الإقتصادي مجهول الهوية بالنسبة اليك. فأرض فلسطين مباركة ومعطاءة لا يجوع فيها إنسان.
قد بارك الرحمن في قرآنه هذا التراب وما حواه من النّوى
فالتين والزيتون من ثمراته وعرائش الأعناب تعلوها السما
والبرتقال تفتحت أزهاره ولآليءُ الرمان تبهج من رأى
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت