كنا نفتخر ولا زلنا بأن الفلسطيني لدية عزة نفس تختلف عن شعوب البشر ومن الصعب مد يده حتي لو شعر الموت يلف حوله او مات أبنائه من الجوع وكما يقال (تجوع الحرة ولاتأكل بثدييها) إلا انه الغريب العجيب ما نشاهده في هذه الأيام يثير الدهشة والاستهجان هل تغيرت عادتانا ؟ أم تغيرت قيمنا؟ أم منسوب الكرامة لدينا انخفض؟. فأعتذر للقراء بهذه الكلمات إلا ان الذي دفعني لكتابه هذه الكلمات كنت متجول في سوق الأربعاء في المحافظة الجنوبية لشراء بعض الأشياء فلم استطيع أقف عند أي بائع لشراء ما ينبغي شراءه إلا وخلفي شحاد او شحادة ولو استجبت لهم جميعا لرجعت للمنزل ماشياً علي الأقدام ولا أجد ثمن مواصلاتي.
حيث يبدو ان الشحدة في بلدنا أصبحت مهنة تلاقي رواجا بين الرجال والنساء , لما فيها من راحة دون انتظار طابور الدور للتوظيف او عدم استيعاب جيش الباحثين عن العمل لعدم وجود أماكن شاغرة لهم.
صحيح أن هذه الظاهرة موجودة في اغلب بلدان العالم إلا فلسطين ففي السنوات الأخيرة تم ملاحظتها بشكل ملحوظ وعلى مدار العام , في كل الأماكن والأوقات , و تكثر وتنتشر في الصيف ذو الطابع الخاص طبعاً, ففي الصيف يعود المغتربين إلى تراب هذا الوطن , خاصة " المغتربين في الخليج " أو بمعنى آخر " المقرشين "، فهذه المهنة لا تحتاج إلى استئجار موقع معين , إذ ان كل الأماكن متاحة , ولا تحتاج إلى ترخيص من البلدية ومطاردات , ولا تكلف عبئا ضريبيا لا للدخل ولا للمبيعات , ولا تحتاج إلى أدوات وعدد وآلات , ولا تشترط في صاحبها مهارات معينة , أو إتقان لغات أو حمل شهادات وخبرات , وفي نفس الوقت يمكن لصاحبها ان يجني ثروات. مهنة سهلة وتحقق دخل سريع أكثر من سائق الأجرة الذي يخرج من أذان الفجر إلي أذان المغرب ، وأكثر من حلاق الشعر الذي يقف طوال اليوم ليقص شعر الزبائن ، وأكثر من الدخل اليومي للمعلم الذي يقف امام لوحة الحائط طوال اليوم .
كل ما تتطلبه هذه المهنة مجموعة أشياء بسيطة هي :-
ملابس رثة ثوب "مرقع" , أو ثوب رجالي صارله 20 سنة ما أنغسل , ملاية ستاتي, أو حطة رجالي غير معروف لونها من الوسخ الموجود عليها , شبشب او زنوبة نص الرجل طالعة منها , طفل أو طفلة عليه طن تراب وغبرة حافي أو حافية القدمين (حسب الرغبة) شرط ان يكون شعره مكنفش وماسك بأيده قطعة خبز .
أهم شيء أن يكون الشحاد او الشحادة ( وقح ولديه إصرار ) بأن لا يحل عنك إلا إذا أعطيته ولو شيكل.
الجميل في هذه المهنة أنه ورغم ظاهرة الفقر والعوز على صاحبها , يكون لديه جوال ومن أحدث الأجهزة ,على الأغلب , ولكن الجرس في هذا الجوال يكون ( سايلنت ) وإلا بتخرب الطبخة . وأحيانا شحادة من نوع جديد معهم كيس مناديل ويجبروك الشراء منهم ومش حيحلو عنك إلا إذ شريت يعني بتطلع من السوق معك سيارة مناديل لو استجبت لهم.
إلا ان في الغالب القصص في عالم الشحدة واحدة , فهي إما تدور حول الأمراض والعمليات والأطفال المعوقين , وأما تدور حول شراء الخبز لكوم اللحم اللي عند الشحاد في الدار, مهنة مريحة فعلا ليس فيها تعب جسدي, ولا حتى تعب في التفكير بطرق شحدة جديدة وقصص جديدة لها .
قصص دجل وكذب , قصص ليست سوى للحصول على قرش بمهانة , وليست سوى للتلاعب في عواطف ومشاعر الناس وإنسانيتهم . في سبيل الحصول على أموال مهما كثرت فلن تساوي ما أريق من ماء الوجه قطرة منه ، كما ان هذه الظاهرة حرمت وللأسف كثيرا من المحتاجين الحقيقين فرصة العطف والتصدق من قبل الغير , فكثيرا من الناس وأنا واحد منهم , بتنا لا نستطيع التمييز بين المحتاج فعلا , وبين المحتاج كمهنة .
صحيح ان الوضع مزري للغاية وماكلين هوا ... ولكن ... لدينا كرامة وعزة نفس ونموت من اجل تراب هذا الوطن ونعشقه ويجب الحفاظ علي سمعته وتظل كرامة هذا الوطن عالية وغالية وفخر بحجم التضحيات التي بذلها أبنائه.
دكتور/هشام صدقي ابويونس
باحث وكاتب في الاقتصاد والفكر السياسي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت