الموظف وحقل التجارب
بمجرد وصول رواتب موظفي قطاع غزة إلى الصراف الآلي والتي عادة ما تكون صالحة في ساعات المساء، تنشط الحركة الاقتصادية ومعها تزدحم الشوارع بالمارة وتتعطل حركة المرور في الطرق المحيطة بالبنوك، وكون الراتب هو مصدر الدخل الوحيد لغالبية الأسر في القطاع، فمن الطبيعي أن ينتظر ولي الأمر ومعه أفراد أسرته وصول صاحب السعادة سواء كان مكتملاً أو منقوصاً بفعل العواصف السياسية، ويفعل الشيء ذاته أصحاب المحال التجارية عل ما يصل إليهم منها يوسع قليلاً من شراين العجز المالي لديهم.
على مدار الأشهر السابقة كان اللغز يتعلق بتاريخ وصول الراتب للصراف الآلي، ومدى المرونة التي يتمتع بها الصراف في الاستجابة لحق الموظف المالي، بعد أن عاش الموظف لأشهر سلفت هاجس قطع الراتب بداعي تقرير عادة ما يحمل الصفة الكيدية، لكن المشكلة التي طلت على موظفي قطاع غزة مؤخراً حملت عنوان «المتهم متهم حتى يثبت براءته»، والتهمة هنا جاءت بفعل الوكالة، فكل من حرر وكالة لشخص ما لتسلم الراتب نيابة عنه تم اعتباره خارج الوطن، وعليه لم يتم تحويل راتبه الأخير إلى البنك في انتظار أن يثبت الموظف غير ذلك، دون أن تأخذ وزارة المالية في عين الاعتبار أن الاستعانة بالوكالة تفرضها أحيانا ظروف مرضية أو سطوة من الزوجة على تلابيب الراتب، وكانت وزارة المالية قد طالبت البنوك الشهر الماضي أن يتسلم الموظف «المشكوك في محل إقامته» راتبه شخصيا دون وسطاء، وعندما اتضح أن معظم المشكوك في أمرهم تسلموا رواتبهم، شككت وزارة المالية في مدى التزام البنوك بتعاليمها، فتفتقت قريحتها عن آلية يثبت من خلالها الموظف بأنه حي يرزق في قطاع غزة، وهذا يتطلب أن يرسل الموظف صورة عن جواز سفره «من الجلدة للجلدة» عبر رقم «فاكس» تم تحديده لهذا الغرض، والرقم المعنون لذلك إما أنه خارج الخدمة أو تعطل عن العمل بفعل ارتفاع حاد في درجة حرارته وقشعريرة أصابت محبرته نتيجة لعشرات آلاف الأوراق المطلوب منه استقبالها في أيام قليلة.
ما يعني وزارة المالية من هذا الإجراء هو إلزام الموظف بالوجود في قطاع غزة، دون النظر إن كان الموظف على رأس عمله أو رغماً عن أنفه جليس البيت، دول العالم الغنية منها والفقيرة بوصلتها الناتج القومي، ولا يفتر عضدها في البحث عن زيادة قدرتها الإنتاجية، فيما الحال لدينا جد مختلف، فحكومة رام الله طالبت الموظفين في السابق بعدم التوجه لعملهم، وحكومة غزة اليوم تمنعهم من الالتحاق بعملهم، ولاحقت من تجرأ منهم أن يطرق العمل الخاص للتغلب على «القعدة».
الأساس أن يكون الموظف على رأس عمله وجزءاً من الطاقة الإنتاجية للوطن، وبالتالي كان الأولى العمل الجاد لإعادة الموظفين إلى عملهم كي نختصر كل هذا المسلسل الهزلي، على قاعدة أن عودتهم لعملهم من الخطوات التمهيدية الضرورية لإنهاء الانقسام، لكن ما تفتقت عنه قريحة وزارة المالية يفاقم من معاناة الموظفين ويدخلهم في أتون هاجس تعطل وصول الراتب، والذي حمل على مدار السنوات السابقة عناوين مختلفة، وقرار وزارة المالية المتعلق بالمشكوك في محل إقامته وضع الجميع في خانة واحدة، فهل يمكن لنا مساواة من سافر لتطوير تحصيله العلمي بمن ذهب بحثاً عن هجرة أو عمل في هذه الدولة أول تلك؟، والأهم من ذلك أن من بين قائمة «المشكوك في أمرهم» من لم يغادر الوطن وأن الوكالة التي حررها مضى عليها سنوات طويلة، والمضحك المبكي أن البعض منهم لم يفكر في السفر البتة وبالتالي لم يستخرج جواز سفر، فكيف يمكن لهؤلاء التحلل من تهمة التواجد خارج الوطن؟.
على مدار السنوات السابقة خضع الموظفون في قطاع غزة لقرارات أقل ما يمكن وصفها بالقرارات الارتجالية غير المدروسة، ناهيك عن التعدي على حقوقهم المنصوص عليها في الأنظمة واللوائح، وجاء قرار وزارة المالية الأخير ليتلاعب بما تبقى من أعصاب الموظف، فهل بات الشغل الشاغل لحكومة فياض استخدام موظفي قطاع غزة حقل تجارب لقراراتها الارتجالية؟.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت