كل التحية للصحف الجزائرية، التي دأبت على إصدار ملاحق خاصة عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي الغاشم. فهذا هو ما يليق ببلد، تبسط سيادتها فيه، حركة تحرر شقيقة منتصرة، وببلد كُتب نشيده الوطني، في "سركاجي" أحد أشد سجون المستعمر الفرنسي فحشاءً، بذوب روح الشاعر (الأسير آنذاك) مُفدي زكريا. فمناصرة أسرى الحرية الفلسطينيين، في الجزائر، يمثل اصطفاف حاملي تراث الأحرار، نُصرةً للأمل والحرية. فللأمل والحرية، عند إخوتنا الجزائريين، حكاية ذات مسار مدهش، كان من بين لقطاتها المُبرقة، أن مُفدي زكريا ذاك، بادر ذات يوم، وفي سجن آخر (هو "البرواقية" الذي يقع في "المدية" على حافة الصحراء) الى الاستجابة بالقريض، لموعد مع الأمل، عندما تناهى الى سمعه، نبأ انطلاق ثورة "جبهة التحرير الوطني" فكتب يخاطب ثورة شعبه شعراً: دعا التاريخ ليلِكِ فاستجابا/ "نوفمبر" هل وفيّتِ لنا النصابا؟/ وهل سمع المجيب نداء شعبٍ/ فكانت ليلة القدر الجوابا؟!
بدأت وقفة الصحافة الجزائرية مع أحرار فلسطين، بملحق "صوت الأسير" الأسبوعي في جريدة "الشعب" التي يرأس تحريرها الأستاذ عز الدين بوكردوس، وتثابر فيها على الملحق أختنا الفاضلة مسؤولة النشر والمديرة العامة أمينة دباش. ثم حذت حذو "الشعب" جريدة "صوت الأحرار" الناطقة باسم "حزب جبهة التحرير" بملحق نصف شهري، يجمع صوت مناضلي فلسطين الأسرى، بصوت أحرار الجزائر، ليرعى الصوتين، أخونا الجبهوي بامتياز محمد نذير بولقرون. ولم تتلكأ صحيفة "المواطن" عن الوقفة، فزادت من البيت شعراً، وفتحت صفحاتها وأطلقت قريحتها لتسمي الملحق تسمية أشبه بمطلع قصيدة: "صوت الأوراس، صوت يصل الى القدس والأسرى" ووقف على الملحق، أخونا محمد كيتوس مدير النشر، الذي كتب بقلمه سطوراً، يفتتح بها إصدار الملحق بعنوان حاسم: "كل أسير لا يكون أسيراً، إلا إذا كان بطلاً"!
أما صديقنا احميدة عياشي، الأسمر البديع، فهو نفسه، ملحق دائم لفلسطين ولشهدائها ولأسراها، إذ لا ينقطع تواصله مع وقائع النضال الوطني ومكابداته، ولا يضعف تركيزه الدائم على قضية شعبنا!
لن نغمط في هذه السطور، حق المنسق والمُعد المثابر، للملاحق، والمتابع النشط لحركة النشر الصحفي في الجزائر، وهو أخونا المناضل خالد صالح (عز الدين خالد، شقيق صديقنا الحمساوي د. أحمد يوسف). فخالد كان واحداً من مجموعة حررت نفسها بنفسها، وكسرت بعزيمتها وبشوقها الى الحرية، قضبان السجن في غزة، قُبيل الانتفاضة الطويلة الأولى التي اندلعت في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 1989.
* * *
هكذا هم إخوتنا في الجزائر. كأنما فلسطين أودعتهم مفردات المادة الخام أو النص الأصلي لقضيتها، فحافظوا عليها لا يغيّرون ولا يبدلون. يصادفك واحدهم، فتراه وقد أغلق خزانة وعيه الأول، بالقضية، على النص الذي تعلمه في أحد الكتاتيب إن كان شيخاً متقدماً في السن، أو في المدرسة الابتدائية بعد الاستقلال. وأذكر ذات يوم، وكان أخي خالد صالح بصحبتي، أننا كنا في جلسة مسائية، مع ضباط جزائريين، قرب معسكرنا في صحراء ولاية "البيّض". أحد زملائنا حاول أن يقدم مداخلة سياسية تنتمي الى وقائع التطورات في بلادنا، فجاء على ذكر ما يُسمى بـ "قوى السلام" في المجتمع الإسرائيلي، ويركز على محاسنها. ظل إخوتنا من ضباط الجيش الجزائري صامتين، ليتطوع بعدئذ أعلاهم رتبة، بوقف السياق قائلاً ما معناه: نحن لا نفهم سوى أنهم جميعاً يحتلون فلسطين وما زالوا يمكثون فيها، وبالتالي لا فرق عندنا بين حميد وخبيث منهم!
كان أخونا الضابط الجزائري، يحافظ على الصيغة الأولى والأخيرة، للحكاية التي لا زيادة بعدها لمستزيد. ففي وعي كل جزائري، علامة فارقة وذكرى، من حكايا الآباء، عن فلسطين. ولدى بعضهم روايات وليس أقاصيص وعلامات فارقة. وهولاء كانوا ممن ارتحلوا الى فلسطين وعاشوا فيها وامتزجوا في نسيجها الاجتماعي. بعض هذه الحكايا تصلح قصصاً للسينما. فصديقي السفير الجزائري في الهند، يتحدر من أسرة، عاشت المرحلة الأولى من حياتها في يافا توأم الجزائر العاصمة. تزوج أبوه من فلسطينية يافيّة، ثم انتقل الرجل الى شرقي الأردن، وتعلم هندسة المتفجرات لغاية تتعلق بنواة الجيش هناك. ولما اندلعت الثورة الجزائرية، بات ما تعلمه لازماً أكثر وأوجب لثورة الجزائر فالتحق بـ "جبهة التحرير الوطني". وفي سجن سركاجي رافق والد السفير الأحرار الأسرى، وكان من بين مفارقات أقاصيص الرجل التي رواها لأولاده، علاقته بعباسي مدني في السجن. فقد كان الرجل والد السفير، العائد من فلسطين الى الجزائر التي غادرها طفلاً مع أبيه، يُعلم عباسي مدني اللغة العربية، وهذا الأخير يعلمه اللغة الفرنسية وظل يزوره في منزله بعد الاستقلال. ويقول السفير عن أمه الراحلة، أنها ماتت على لهجتها الفلسطينية. لكن ذكرى سجن الأب، ظلت غائرة في نفس صديقي، مثلما هي ماكثة ذكريات السجون، في وجدان مناضلي الحرية الذين أورثوها لأبنائهم. فالجزائريون مهيئون وجدانياً، للتعاطف مع قضايا الاستقلال والحرية في كل مكان، وهذا ما جعل للأسرى الفلسطينيين كل هذا التكريم، وكل هذه المساندة، في الصحافة الجزائرية!
كل التحية للصحف الجزائرية، التي دأبت على إصدار ملاحق خاصة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت