لم يكن مفاجأة ان تقدم اللجنة الوزارية العربية على تقديم التنازلات نيابة عن الشعب الفلسطيني ، لان دور من يتزعم هذه اللجنة معروف بخدمة المشاريع الامريكية الصهيونية والعمل على تفتيت المنطقة العربية عبر الثورات المضادة التي تسعى بكل جهد لخلق الفوضى الخلاقة ، وان ما اقدمت عليها اللجنة الوزارية هو بكل تأكيد استمرارا لمسلسل التنازلات العربية مقابل تعنت إسرائيلي صارخ مرجعه إلي الموقف العربي الذي يزداد ضعفا والصمود العربي الذي يتآكل شيئا فشيئا. مع انجرار الجامعة العربية والتحاقها بأجندة الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها وفي مقدمتهم إسرائيل، وان ما اقدم عليه وفد الجامعة العربية من تنازل لا يمكن ان يلقى سوى الرفض الكامل من الشعوب العربية واحزابها وقواها الحية ومن كافة الشعب الفلسطيني وقواه وفصائله بعد مسيرة نضالية توالت فيها قوافل الشهداء قربانا لتحرير الأرض واستعادة الحقوق.
أن كل الذين يتابعون المسار الذي يتم عبره سوق القضية الفلسطينية والتصميم العربي على الوصول إلى حد الانحدار ثم الانتحار، باتوا على مفترق طرق، إما الاتجاه نحو الحقيقة ولا غيرها والتسليم بها، وهي أن ما يسمى "الربيع العربي" ارادوا تحويله الى أكذوبة، وأن حقيقته الظاهرة والباطنة تؤكد أنه خريف عربي بامتيار على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والمعيشية والثقافية والاجتماعية والدينية، وبالتالي لا بد من الاستدارة لإيقاف حالة الانهيار والدمار الحاصلة، وإما الاتجاه نحو النهاية المرسومة صهيونيًّا ـ أميركيًّا وهي تنفيذ خطط التقسيم والتفتيت لدول المنطقة وصولا إلى مشروع ما يسمى "الشرق الأوسط الكبير" الذي لن تكون فيه تحديدًا دولة اسمها فلسطين على أرض فلسطين.
ان ما يخيفنا اليوم هو تقديم التنازلات تلو التنازلات عن الثوابت الفلسطينية في الصراع العربي الصهيوني القائم إلا خطوط وألوان ترسم مستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة بصفة خاصة، ومستقبل شعوب المنطقة بصفة عامة، فقبل سنوات وتحديدًا في مارس 2002 قدمت جامعة الدول العربية على طبق من ذهب لعدو الأمس صديق اليوم تنازلات لم يكن يحلم بها المحتل الصهيوني على الإطلاق أسمتها الجامعة العتيدة "مبادرة السلام العربية" التي أبرز بنودها هو التأكيد على أن السلام قرار استراتيجي وأن الدول العربية كلها والدول الإسلامية التي أيدت المبادرة على استعداد لإقامة علاقات سلام طبيعية مع كيان الاحتلال الصهيوني، واعتبار الصراع منتهيًا "طالق بالثلاث" مقابل إقامة دولة فلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس في حدود يونيو عام 1967م، كما أكدت المبادرة على ضرورة التوصل إلى حل يتفق عليه حول قضية اللاجئين بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194 ورفض التوطين بكل أشكاله وصوره.
امام هذا الواقع المرير كان رد كيان الاحتلال الصهيوني على المبادرة انذاك، بعد الوقفة البطولية للرئيس ياسر عرفات في كامب ديفيد 2 والتي اعلن فيها رفضه التنازل عن القدس وحق العودة ، حيث تلاها تدنيس المجرم شارون رئيس حكومة الاحتلال المسجد الاقصى ومحاصرة مبنى المقاطعة برام الله الذي كان بداخله الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات، ومنعه من حضور القمة أو إلقاء كلمته عبر الفيديو، وعلى الرغم من هذه الإهانة غير المسبوقة للعرب ومن معهم من الدول الإسلامية من مؤيدي المبادرة، فإن التمسك بالمبادرة مع القبول بهذه الإهانة كان الخيار الاستراتيجي. وما أشبه اليوم بالبارحة، فها هي جامعة الدول العربية العتيدة تقدم تنازلات جديدة أكبر عن ما قدمته من قبل تتمثل في تبادل الأراضي ومنع السلطة الفلسطينية عن ملاحقة الاحتلال الصهيوني وجرائمه في المحاكم الدولية.
ان حقيقة كيان الاحتلال الصهيوني، إنه احتلال يريد أن يكون توسعيا لاغيا وطاردا للآخر وغير معترف به، متفوقا على الجميع في كل شيء، يريد أن يكون ما عدا جنسه وعرقه عبيدا وخدما وأذلة يأتمرون بأمره وينتهون بنواهيه.
ان ما يجري يعبر عن الضعف والهوان والتخاذل وبالتالي تغير الأولويات والأهداف ويفضي إلى الانحدار والدمار والانتحار، وليس صحيحا ما يروج ويقال إن هذا التنازل الجديد عربون لإجبار كيان الاحتلال الصهيوني على استئناف المفاوضات، لأن المفاوضات في حد ذاتها ليست هدفا، بل ثبت أنها سبب في تدمير الأرض الفلسطينية وسرقتها بالاحتلال والاستيطان، فالمحتل هو المحتل.
امام هذا الواقع نرى التهديدات الصهيونية الامريكية للمنطقة وخاصة لايران وسوريا ولبنان ، وعلى وجه التحديد لقطاع غزة، وهذه التهديدات تحتاج استنهاض كافة القوى الحية ليصار بعدئذ إلى عقد الآمال على دعم حقيقي ومؤثر للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني، بما يمنح الاحتلال فرصة كافية لتعميق الخلل القائم في ميزان القوى لصالحه.
ان استمرار الانقسام الفلسطيني إنما هو انعكاس لخلاف سياسي وأيديولوجي، في ظل المساعي الأمريكية لفرض شروط الرباعية الدولية على حركة حماس، إلا أن إصرار فصائل العمل الوطني على التمسك بالمقاومة والإعداد لمواجهة أي عدوان إسرائيلي جديد، دليل على تمسك الشعب الفلسطيني بكامل حقوقه الوطنية والقومية المشروعة.
وفي المحصلة فإن غياب الإرادة الحقيقية لإنجاز المصالحة وإنهاء الانقسام، يفسح المجال أمام التدخل الخارجي بين ثنايا التباينات والخلافات لضرب المشروع الوطني الفلسطيني. إلا أن صده يتطلب المضي قدماً في إنجاز الوحدة الوطنية، وإعادة ترتيب البيت الداخلي، تمهيداً لوضع استراتيجية عمل مشتركة على أساس الجمع بين المقاومة والمفاوضات، لمواجهة الاحتلال ودحره، وانتزاع الاستقلال وتقرير المصير، وعودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم.
كاتب سياسي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت