الفحص الطبي قبل الزواج أدى إلى انخفاض ملموس في عدد مرضى الثلاسيميا
في الثامن من أيار من كل عام يحتفل العالم باليوم العالمي لمكافحة مرض الثلاسيميا ، وبهذه المناسبة أقول :
السلامة من المرض نعمة عظيمة أنعم الله سبحانه وتعالى بها على الإنسان ، لكنه قد يُبْتلى ببعض الأمراض ؛ فشرع سبحانه له التداوي تحصيلاً للشفاء ، قال صلى الله عليه وسلم { لكل داء دواء فإذا أصيبَ دواءُ الداء برأ بإذن الله عز وجل } رواه مسلم ، فالتداوي من المباحات في ديننا الحنيف .
وربما تبادر إلى الذهن أن التَّداوي يعارض الرضا والإيمان بالقضاء والقدر ؛ أو ينافي التوكل على الله أو حسن الظن به . وحقيقة الأمر أنه درء للمفاسد المؤكدة ، فالأخذ بالأسباب واجب على المسلم ، وهذا مما لا يُضْعِفُ الإيمان بالله عز وجل أو الاعتصام به واللجوء إليه بالدعاء ؛ فالرزق والنصر والشفاء وغيرها من النتائج الدنيوية لا يُنْتَظَرُ نزولها من السماء بغير بذل الجهد لتحصيلها .
تعالت الأصوات المنادية باشتراط الفحص الطبي قبل إبرام عقد الزواج ، وبمنع إبرامه إذا أشارت نتائج الفحص إلى خطورة ذلك على الزوجين أو على نسلهما ، وذلك بهدف تقديم المشورة الطبية لهما ، وتبصيرهما بأوضاعهما الصحية والجسمية لاتِّخاذ القرارات المتعلقة بالزواج ونتائجه .
وتتمثل أهمية الفحص الطبي قبل الزواج بكونه خطوةً أساسيةً على طريق إنشاء أسرة قوية بحمايتها من نسل ضعيف أو يعاني من الإعاقات ، فهو كفيل بتأمين الوسائل الوقائية الصحية للتأكُّد من سلامة البِنْية التناسلية للخاطبَيْن ، وضمان خلوِّهما مما يهدد حياتهما أو نسلهما بالخطر من أمراض معدية أو وراثية أو عقلية . فقد أظهرت الاكتشافات العلمية في ميدان الطب انتقال بعض الأمراض إلى الزوجين بالمعاشرة كالإيدز ، أو إلى النسل كالثلاسيميا ، وأظهرت كذلك وجود حالات غير مَرَضِيَّة لكنها تتسبب غالباً في موت الأجنَّة المتكرر ؛ أو موت الأطفال في سن مبكرة .
وهنا تأتي الحاجة إلى الفحوص الطبية ؛ التي تعتبر نتائجها على درجة عالية من الدقة والقطعية ؛ لتكون احتياطات لمعاشرة زوجية سليمة تمدُّ المجتمع بالثروة البشرية التي تعمِّر الكون وتتحمل مسؤولية الاستخلاف فيه ، وللتقليل من احتمالات تغرير أحد الزوجين بالآخر أو التدليس عليه بإخفاء العيوب .
ولخطورة هذه الأمراض الوراثية التي يمكن أن تنتقل بسبب الزواج ، ونظراً لعدم وجود نص في قانون الأحوال الشخصية المطبق حالياً يلزم بإجراء فحص طبي للخاطبين قبل الزواج ، واستناداً إلى قانون الصحة العامة النافذ في فلسطين آنذاك ؛ فقد أصدرتُ ــ بصفتي نائباً لقاضي القضاة وقائماً بأعماله ـ تعميماً بتاريخ 11/5/2000 لجميع قضاة المحاكم الشرعية في فلسطين يُلزِمُ الخاطب الرجل قبل إبرام عقد زواجه إجراء الفحص المخبري CBC للتأكد من عدم حمله الصفة الوراثية لمرض الثلاسيميا ، فإذا تأكد حمله لها تلزم المخطوبة في هذه الحالة إجراء هذا الفحص ؛ فإن تأكد أنها لا تحمل الصفة الوراثية للمرض فيتم إجراء عقد زواجهما ؛ لأن المرض لا ينتقل إلى النسل إلا إذا كان الأبوان معاً حاملين الصفة الوراثية له ، وفي هذه الحالة يمنع إجراء عقد الزواج ؛ إلا إذا أصر الزوجان على العقد ففي هذه الحالة يتم إعداد محضر من قبل القاضي الشرعي يرفع إلى ديوان قاضي القضاة للتدقيق ــ حسب نص التعميم ــ ويتم استدعاء الخاطبين لبيان مخاطر هذا الزواج ونتائجه على نسلهما .
وبالفعل ، فمنذ صدور هذا التعميم لا يمكن إبرام عقد الزواج قبل إجراء هذا الفحص الطبي ، ويسجل لأبناء شعبنا الفلسطيني وعيهم بأهمية هذا الفحص والتزامهم به عن طواعية وقناعة واختيار ، وكذلك لم تسجل أية حالة إصرار على إبرام العقد في حالة حمل المرض ؛ مما أدى إلى انخفاض أعداد المرضى الجدد المصابين بالثلاسيميا ، حيث سجل في السنوات الأخيرة أقل من (10) عشر حالات سنوياً بعد أن كانت (40) أربعين حالة تقريباً في المجتمع الفلسطيني ، ونأمل أن يؤدي ذلك في المستقبل القريب إلى انخفاض عدد الولادات الجديدة المصابة وصولاً نحو أعداد أقل من تلك المسجلة حالياً ، ونتمنى على الله أن نصل إلى عدم تسجيل أية ولادات جديدة في مجتمعنا الفلسطيني بإذن الله تعالى ، فحتى الآن هذه هي الوسيلة الوحيدة لمكافحة المرض والحد من انتشاره .
الثلاسيميا هو مرض فقر الدم المتوسطي ، سمي بذلك لكثرة انتشاره في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط مثل إيطاليا واليونان وبعض الدول العربية ، وهو مرض وراثي ينتقل إلى النسل إذا كان الأبوان مصابان به ، ويؤثر على عمر كريات الدم الحمراء ؛ حيث تحصل طفرة في مكونات الهيموجلوبين تؤدي إلى عدم تمكّن جسم المصاب من تكوين الهيموغلوبين السويّ للبالغين والذي يرمز له بالرمز A ؛ مع استمراره في تكوين الهيموغلوبين الخاص بالمرحلة الجنينية والذي يرمز له بالرمز F ، مما يسبب تكسراً في خلايا كريات الدم الحمراء ، وهنا يحاول الجسم تعويض هذا النقص بزيادة تكاثرها ، فتصبح كثير من عظام الجسم وأعضاؤه مصنعاً للنخاع العظمي مما يؤدي إلى انتفاخ جمجمة الرأس وكبر الطحال والكبد ، وقصور حاد في نقل الأكسجين إلى الأنسجة الحية ، ولكن كل هذا الإنتاج الكبير من كريات الدم الحمراء يفشل في تعويض الهلاك الذي تتعرض له بسبب سرعة انحلالها ، فيضطر الطبيب إلى نقل الدم إلى المريض بصفة مستمرة ، ونقل الدم عادة ما يكون مصحوباً بازدياد ترسب الحديد في جسم المصاب مما يسبب له ضرراً بالغاً لدرجة يحتاج معها المريض علاج هذه الحالة المرضية الجديدة ، ويتضرر الكبد والقلب أيضاً ، وتتوفر الفرصة للإصابة بالتهابات فيروسية للكبد . وغالباً ما ينتهي الأمر بالمصابين بهذا المرض إلى الوفاة عادة في العقد الثالث من العمر إلا إذا أجريت لهم عملية زرع نخاع جديدة ناجحة ، أما في الحالات الشديدة فيموت الطفل قبل سن العاشرة .
شُرِعَ الزواج لتحقيق أهداف منها النسل ، فهو من الضرورات اللازمة لإقامة مصالح الدين والدنيا ـ وهي النفس والدين والمال والعقل والنسل ـ والتي جعل الإسلام المحافظة عليها من أهم مقاصده وفرائضه الملزمة ، فالذرية الطيِّبة الخالية من الضعف ، والسالمة من الإعاقة والمرض مأمولُ كل إنسان ؛ لأنها امتدادُه وقُرَّةُ عينه وزينةُ حياته في الدنيا ، وعنوانُ القوة التي يجب إعدادها ، قال صلى الله عليه وسلم { المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير } رواه مسلم ؛ لذلك حثَّ الشرع على اتخاذ الوسائل التي تضمن قوة النسل وسلامته ، من ذلك مثلاً :
1- انتقاء كل من الزوجين الآخر وتخيُّره ممن يحمل الصفات الحسنة - الخَلْقِيَّة والخُلُقِيَّة - ؛ كالسلامة من الأمراض والقدرة على الإنجاب ولين المحادثة وطيب المعاملة والمعاشرة ؛ لضمان ذرية متكاملة الشخصية معافاة من الأمراض والعلل بدليل قوله صلى الله عليه وسلم { تَخَيَّروا لنطفكم فانْكِحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم } رواه الحاكم في المستدرك .
2- تغريب النكاح وتجنُّب زواج الأقارب ؛ لتفادي ولادة نسل ضعيف ؛ فقد تضمنت المصنفات الفقهية كثيراً من العبارات المرغِّبة بزواج الأجنبية أو القرابة غير القريبة ؛ لئلاَّ يُخْلَقَ النسل ضعيف البِنْية ، بل إن عمر بن الخطاب قال لآل السائب : قد أضْوَأْتُم فانْكِحوا في النَّوابغ ؛ أي ضعف نسلكم . وأثبتت الاكتشافات الطبية المؤكَّدةُ أن بعض الصفات الوراثية المتنحية إذا اجتمعت ؛ فإنها تتغلب على الصفات الوراثية السائدة وبالأخص في حالة زواج الأقارب .
3- إباحة طلب أيِّ واحد من الزوجين فسخ الزواج إذا وجد في الآخر عيباً خَلْقياً تستحيل معه الحياة الزوجية دون ضرر ـ وقد نص قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية الفلسطينية ـ فاشتراط الفحص الطبي قبل الزواج والاسترشاد بنتائجه أوْلى ؛ إذ إن من العيوب ما يمكن زواله والبرء منه ، فالكشفُ عنه وعلاجه قبل العقد خيرٌ من الفسخ الذي يسبب أضراراً قد لا تقل أثراً عن مواصلة الحياة الزوجية .
4- { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ضرر ولا ضرار } رواه أحمد ، ويعتبر هذا القضاء قاعدة عامة توجب رفعَ الضرر عن النسل وعن غيره . ولعلَّ من أبرز صور الإضرار بالمجتمع اليوم إلزامه نفقات علاج الأمراض التي قد يتسبب بها الزواج ، وبذل الأموال الطائلة في مكافحتها لعجز معظم المرضى أو ذويهم عن ذلك لارتفاع كلفتها وأثمان أدويتها والإقامة في المستشفيات ومراكز العلاج الطبية ، فإن من حق المجتمع إنفاق هذه الأموال في مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية .
فإن هذه المشاريع توجد فرص عمل وفيرة لأبناء شعبنا وبالأخص الشباب منهم ، وهذا مما سيسهم بالتأكيد في ثباتنا على أرضنا المباركة ومرابطتنا فيها ، والتصدي لمخططات تهجيرنا القسري منها التي يرسمها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني بهدف تصفية قضيته العادلة وإنهاء وجوده في وطنه .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت