حتى لا تتحول مبادرة السلام العربيّة إلى "إسرائيليّة"

بقلم: هاني المصري

عندما تبنت القمة العربيّة في بيروت "مبادرة السلام العربيّة" في العام 2002، قدمت بذلك تنازلًا تاريخيًّا مجانيًّا من جانب واحد، ومن دون أن يملك العرب القوة اللازمة لفرضها، ولا حتى من دون توفر الاستعداد الإسرائيلي لقبولها أو الإرادة الدوليّة والأميركيّة للضغط على إسرائيل لإجبارها على قبولها، ولم تكن هناك مفاوضات ولا رهان كبير على استئنافها بسرعة؛ بل كانت المبادرة رسالة عربيّة جماعيّة للاستعداد للسلام الكامل، بما في ذلك الاعتراف والتطبيع مع إسرائيل، مقابل الانسحاب الكامل إلى حدود 1967، وقبول حل عادل متفق عليه لقضيّة اللاجئين، وكان الجواب الإسرائيلي على المبادرة: وضع التنازل العربي في الجيب الإسرائيلي، وشن عدوان عسكري شامل على الأراضي الفلسطينيّة المحتلة عام 1967، انتهى بمحاصرة مقر الرئيس ياسر عرفات الذي انتهى باغتياله، وبتغيير النظام السياسي الفلسطيني باستحداث منصب رئيس الوزراء.

وكان الرد الأميركي بشن عدوان على العراق في العام 2003 وطرح خارطة الطريق الدوليّة، التي استجابت للكثير من المطالب الإسرائيلية، ومع ذلك لم تقبلها إسرائيل، بل وضعت عليها أربعة عشر تحفظًا حوّلتها إلى "خارطة طريق إسرائيليّة" جاري تطبيقها منذ العام 2003 وحتى الآن، تحت عنوان أن الأمن الإسرائيلي هو المنطلق والغاية، والحلول الانتقاليّة هي الطريق المناسب لتطبيق المخططات الاستعماريّة الاستيطانيّة العنصريّة الإسرائيليّة الرامية إلى استكمال فرض الحقائق على الأرض، لتجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد الممكن والمطروح عمليًا.

إن القواعد التي حكمت المفاوضات العربيّة الفلسطينيّة – الإسرائيليّة منذ البداية وحتى الآن، منذ مؤتمر مدريد في العام 1991، وحتى موافقة "الوفد السباعي" على مبدأ تبادل الأراضي حتى من دون مفاوضات ومن دون أن يقدم الجانب الإسرائيلي شيئًا؛ تتجاوز القواعد المتعارف عليها في أي مفاوضات، ما يجعلها إملاءات وليست مفاوضات.

المفاوضات تحدث عادة عندما يعجز الطرفان المتصارعان عن فرض كل ما يريدانه بالقوة، وتوفر الاستعداد لكليهما للتنازل عن جزء مهم من مطالبه حتى يمكن التوصل إلى مساومة، إلى تسوية مقبولة من الطرفين، وبالتالي تكون مرجعيّة أي مفاوضات واضحة وملزمة، والشكل النهائي للتسوية المحتملة متفق عليه بالخطوط العامة على الأقل، وأن يكون ما يتم الاتفاق عليه تبادليًّا، أي ضرورة التزام الطرفين بتطبيق ما يتم الاتفاق عليه، فإذا أخل طرف بالتزاماته فهذا يُعفي الطرف الآخر من التزاماته، وإذا فشلت جولة المفاوضات وعاد طرف إلى نقطة الصفر، فهذا يجعل الطرف الآخر ملزمًا بالعودة إلى نقطة الصفر.

لا يعقل أن تتجاوز كل حكومة إسرائيليّة جديدة التزامات الحكومات السابقة، وتبدأ المفاوضات دائمًا من الصفر، وتحتفظ القيادة الفلسطينيّة بكل الالتزامات بالرغم من عدم التزام إسرائيل بها، وتبدأ المفاوضات من النقطة التي انتهت إليها المفاوضات السابقة.

لقد اعترفت المنظمة في اتفاق أوسلو بإسرائيل والتزمت بوقف المقاومة واعتماد المفاوضات كأسلوب وحيد لحل الصراع، وفصلت ما بين القضيّة والأرض والشعب، وقسمت كل واحدة منها إلى أقسام، وتحولت الأقسام إلى تفاصيل وشظايا، بما في ذلك الأرض إلى 67 و48، وأراضي 1967 إلى (أ)، و(ب)، و(ج) والقدس، والشعب إلى "داخل" و"خارج" و"شعب 48" و"شعب 67" و"شعب القدس"، والحلول إلى انتقاليّة ونهائيّة، واستمرت في الرهان على المفاوضات، وقدمت المزيد من التنازلات، مثل الموافقة على مبدأ تبادل الأراضي في قمة كامب ديفيد ومباحثات طابا (2000 -2001)، وعادت لتأكيد ذلك في قمة أنابوليس في العام 2007، والمفاوضات مع حكومة أولمرت في العام 2008، مع زيادة نسبة الأراضي التي استعد الجانب الفلسطيني لمبادلتها، ووافقت على أساس هذا المبدأ على تقسيم القدس والضفة وفقًا لمعايير كلينتون، أي أن ما هو "إسرائيلي" في القدس الشرقيّة والضفة تضمه إسرائيل إليها، بما في ذلك الحي اليهودي وحائط البراق، وما هو فلسطيني يكون جزءًا من الدولة الفلسطينيّة العتيدة.

ووافقت المنظمة على حل عادل متفق عليه لقضيّة اللاجئين على أساس القرار 194، وهذا يجعل حق العودة رهينة في يد إسرائيل، وتحت رحمة التفاوض، وليس حقًا يجب التفاوض على تطبيقه وليس تغييره وتصفيته، ومع ذلك لم توافق إسرائيل لأنها لا تريد عبارة "حق عودة" ولا "حل عادل" ولا إشارة للقرار 194؛ حتى تؤدي المفاوضات إلى تصفية كاملة لقضيّة اللاجئين.

في المقابل، تراجعت إسرائيل بسرعة عن أوسلو وتنصلت من التزامها به حتى من قبل اغتيال إسحاق رابين، وأخذت تعمل على فرض الحل الإسرائيلي خطوة خطوة تمهيدًا لفرضه بالكامل عندما ينضج الجانب الفلسطيني لذلك، أو تستمر إسرائيل بفرض حلها من جانب واحد إذا توفرت ظروف عربيّة وإقليميّة ودوليّة ملائمة، ويبدو أن هذه الظروف آخذة في التبلور، أو يمكن أن تتحقق في ظل "الربيع العربي" وتداعياته واحتمالاته المتزايدة لاندلاع حروب ضد الفلسطينين في غزة وسوريا وحزب الله وإيران؛ حتى يمكن رسم خارطة جديدة، مختلفة كليًّا، للمنطقة، تتربع على قيادتها إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة الأميركيّة وبعض دول أوروبا الغربيّة.

في هذا السياق، جاء تنازل الوفد السباعي العربي بالموافقة على تعديل مبادرة السلام العربيّة، بحيث يضاف إليها مبدأ تبادل الأراضي، ليجعل التنازل الفلسطيني المرفوض أصلًا تنازلًا عربيًا كي تتشجع إسرائيل للموافقة على قبول مبدأ الانسحاب إلى حدود 67.

وحتى تكتمل الصورة، لا بد من الإشارة إلى أن التنازل العربي الجديد جاء في زمن "الربيع العربي" وصعود جماعة الإخوان المسلمين، بعد تقديم طلبات أميركيّة عديدة لتعديل المبادرة العربية وتغييرها، بدأت بالظهور في لقاءات صائب عريقات ومحمد شتيّة في واشنطن تحضيرًا لزيارة أوباما، وتلاحقت بجولة كيري إلى عدد من بلدان المنطقة التي مهدت للزيارة، وتكررت أثناء الزيارة وما بعدها، وذلك لتوفير غطاء عربي يساعد على استئناف المفاوضات بعد تنازلات فلسطينية جديدة.

هذه الطلبات لا تقتصر على تعديل واحد، وإنما مطلوب بعد موافقة الوفد السباعي على مبدأ تبادل الأراضي موافقة عربيّة على تعاون إقليمي، أي تطبيع عربي مع إسرائيل قبل السلام، لطمأنتها بعد "الربيع العربي"، واستعدادها لتقسيم القدس الشرقيّة (بدلًا من القدس كما هو سائد حتى الآن)، وتغيير الوارد عن قضيّة اللاجئين، بحيث يحذف حق العودة، والإشارة إلى حل عادل وقرار 194، والتمهيد لقبول إسرائيل كدولة يهوديّة من خلال اعتماد صيغة دولتين لشعبين، وهي صيغة فضفاضة يمكن أن تفسر من كل طرف كما يحلو له.

إن الإدارة الأميركيّة في مرحلة رئاسة أوباما الثانية اختارت الضغط على الفلسطينيين والعرب بعد أن فشلت في بداية مرحلة رئاسته الأولى في الضغط على إسرائيل، ويبدو أن الوضع العربي الحالي يغري بالضغط عليهم، والموافقة على مبدأ تبادل الأراضي يمكن أن يكون - إذا لم يواجه بمعارضة شديدة قادرة على إجهاضه، فـ"أول الرقص حنجلة" - بداية لتنازلات عربيّة، إذا لم تحبط، ستنتهي بتغطية عربية على حل تصفوي انتقالي أو نهائي للقضيّة الفلسطينيّة.

المثير جدًا أن نتنياهو لم يلتفت إلى هذا التنازل العربي، وإنما اعتبر أن أصل الصراع ليس الأرض وإنما ضرورة الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، أما ليفني، التي رحب بالتنازل العربي، اعتبرت أن أهميته تكمن في أن المبادرة العربيّة أصبحت مطروحة للتفاوض وليس على صيغة أما أن تقبل أو ترفض، وهذا يجعلها مرحلة جديدة على طريق الاستسلام العربي، وهذل يفتح شهيّة إسرائيل، ويجعلها تطالب بالمزيد من التنازلات، فهي كالمقبرة التي لا تشبع من الموتى، وكلما دفن منهم تقول هل من مزيد!

لا يمكن أن نلوم قطر قبل أن نلوم أنفسنا، لأننا السابقون إلى السير في المفاوضات الثنائيّة المباشرة من دون مرجعيات واضحة وملزمة في توقيع اتفاق أوسلو، والتمسك به حتى بعد أن تخلت عنه إسرائيل، والموافقة على مبدأ تبادل الأراضي، والاستمرار في الرهان على مفاوضات ثنائية برعاية أميركية انفرادية قادت ولن تقود مستقبلًا إلا إلى الكوارث.

يكفي أن نرى الارتباك في الرد الرسمي الفلسطيني بعد تصريحات وزير الخارجيّة القطري: بين من يتحدث عن تعديلات على الحدود؛ وآخر عن تبادل الأراضي، وهناك فرق جوهري بين هذا وذاك؛ وبين مدافع عن قطر وبين من يحملها كل الشرور؛ وبين من يرى أن ما تم طبيعي ولا يوجد فيه جديد، لأن الفلسطينيين وافقوا على تبادل الأراضي منذ زمن بعيد وأن تعديلات الحدود لا يمكن الموافقة عليها إلا بعد موافقة إسرائيل على الانسحاب إلى حدود 1967؛ وبين من اعتبره سلفة وتنازلًا مجانيًا لإسرائيل.

المعارضة للتنازل العربي قويّة فلسطينيًا وعربيًا، ولكنها ليست كافية حتى الآن للتراجع عنه.

سبحان الله الذي جعل من قطر التي طالبت بسحب المبادرة العربيّة قبل عدة أشهر أن تقود تعديلها.

حتى لا تتحول مبادرة السلام العربيّة إلى "مبادرة إسرائيليّة"؛ لا بد من إغلاق مسار المفاوضات الثنائية العبثية، وفتح الطريق أمام مسار جديد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت