غزة – وكالة قدس نت للأنباء
يحرص الفلسطينيون على استحضار واقعة "النكبة الفلسطينية" المصبوغة بذكريات مريرة وأوجاع ممزوجة بآلام مستمرة، فكل عام ينتج عملاً فنياً يجسد هذه القصة الأكثر إيلاماً ويبدع اللاجئون في تجسيد هذه الواقعة التي تسببت بمأساة إنسانية كبرى ما زالت حاضرة بكل تداعياتها منذ عام 1948م.
اللاجئ عبد اللطيف السدودي(32 عاما) استطاع ان يجسد مؤامرة فصل الروح عن الجسد "النكبة " بعمل جديد ومميز، وان ينقلنا من العصر الذي نعيش فيه إلى الأحداث التي وقعت بحق الفلسطينيين ، حين سارت قوافل شعب بأكمله تاركين خلفهم بيوتهم التي شيدوها بالعرق، والأرض التي زرعوها عبر آلاف السنين، خوفاً على أبنائهم الأطفال من المجازر التي ارتكبتها عصابات "الهاغاناه" الصهيونية .
فكرة تجسيد النكبة لدى عبد اللطيف كانت هذه المرة من خلال استخدام "الفلين " وتحويله إلى مجسمات تحاكي تماما ما حدث للنازحين الفلسطينيين عام 1948م ، فقد اعتمد على تقسيم النكبة إلى مرحلتين مرحلة الهجرة أثناء الخروج من القرى والبلدات وكيف كان حال الناس ، ومرحلة ما نتج عنها من إقامة مخيمات اللجوء والتي تراصت فيها الخيام البيض في بادئ الأمر .
المرحلة الأولى تتكون من مجسمات ضمت طوابير من البشر يحملون أمتعتهم على أكتافهم وفوق ظهورهم وفوق العربات والشاحنات ، حيث تنظر لتجد حاجة مسنة قد أتعبها المسير وهي تشق طريقها وتحمل "اشوال " على رأسها، وعجوز قد حمل حفيده وسار به في ذات الطريق ، ومجسم لامرأة هي وطفليها قد باغتهم العطش فجلست على حجر وأخذت تسقيهم من "قربة" ماء ، وآباء يبحثون عن أبنائهم ، ولعل يلفتك مجسم لحاجة قد احتضنت جذع شجرة والى جانبها سيارة جيب عسكرية يستقلها جنود العصابات الصهيونية.
ويقول الشاب عبد اللطيف لـ"وكالة قدس نت للأنباء" إن "هذه المجسمات تروي فصول المعاناة الأولى لما تعرض له الآباء والأجداد حين تركوا بيوتهم وقراهم هرباً من الموت ، وتشتتوا في بقاع الأرض ".
اما المرحلة الثانية من قصة التراجيديا المؤلمة، فقد احتوت على مجسمات لخيام من القماش الأبيض جسدت واقع مخيمات اللجوء في بادئ امرها، وقد انتشر من وصلوا سالمين من الموت على ارض مبسوطة وراحوا ينصبون الخيام ، فتجد مجسم لرجل يقوم بنصب خيمته، وامرأة تضع ما حملته من أمتعة وذكريات بلدتها، وحاجة تتفقد أبنائها وأحفادها .
ويوضح عبد اللطيف بأنه حرص على أن تكون المجسمات للرجال والنساء والأطفال بنفس الهيئة التي خرجوا عليها في ذلك الوقت، حيث كانت ترتدي في حينها اغلب النساء الثوب الفلسطيني المطرز ، والرجال يرتدون "العقال" و"الدشداش"، وقد أظهرت المجسمات البساطة التي كانوا يعيشون فيها .
انجاز هذا العمل المميز استمر قرابة الأربعة أشهر كما يخبرنا عبد اللطيف، وقد استخدم في إعداده أدوات بسيطة منها " الفلين " وهي مادة تستخرج من لحاء شجر بلوط الفلين، وهي مادّة إسفنجية خفيفة الوزن، يمكن ضغطها بدرجة كبيرة ، حيث عمد إلى نحت الفلين مستعين بورق الصنفرة ، واستخدم عيدان صغيرة ومادة لاصقة ومنشار صغير وعلب ألوان .
ويروي الشاب الغزي كيف تولدت عنده مهارة النحت على الفلين ، مستذكرا العدوان الإسرائيلي على غزة في أواخر عام 2008م والذي أطلق عليه"عملية الرصاص المصبوب"، ويوضح انه خرج من منزلهم الكائن بحي الشيخ رضوان بغزة مباشرة عندما تم الإعلان عبر وسائل الإعلام عن انتهاء الحرب متوجهاً لشمال قطاع لتفقد الدمار الذي حل بسكان تلك المنطقة.
ويقول عبد اللطيف "رحت على شمال القطاع وانصدمت لمى شفت الدمار في كل مكان ، بيوت ناس مهدومة واراضي مجرفة وحال الناس ببكي ، بعدها اتجهت لغرب القطاع ولقيت شوارع مدمرة ".
عبد اللطيف حين رأي هول ما حدث لسكان القطاع لم يجد هو وصديقه الذي كان يرافقه إلا الذهاب للبحر والجلوس امامه، كما يحدثنا، ليفكر في كيفية مساعدتهم من خلال إظهار معاناتهم قائلاً " وانا قاعد بفكر بالناس لقيت مرمية جنبي قطعت فلين امسكتها وروحتها معي على البيت ".
ويتابع "مسكت الفلين وقلت بدى اصنع منها طيارة ، إعملت مجسم طيارة أباتشي منها ولونتها وكانت هادي اول مرة بنحت فيها واعمل مجسم ، ولمى شافها أصدقائي شجعوني لعمل مجسمات ، وبدلت الطيارة مع واحد صاحبي بألواح فلين وقمت بصناعة منها مجسمات لدبابات وجرفات تهدم بيوت والمدافع الإسرائيلية وهي تقصف المواطنين والمنازل ".
لم يدرك عبد اللطيف في حينها ان ما صنع سوف يقوده لكي يجسد الذكري 65 "للنكبة الفلسطينية" عندما طلب منه ذلك نائب رئيس اللجنة الشعبية لحق العودة في محافظة خان يونس نعيم مطر، وذلك حينما رأى المجسمات التي جسد فيها الحرب الإسرائيلية على غزة.
الشاب المتعلق قلبه في بلدته الأصلية سدود التي تم احتلالها عام النكبة..وجه رسالة للرئيس الفلسطيني محمود عباس(أبو مازن) يطالبه فيها بأن يوفر له الدعم لاقامة معرضين مفتوحين في الضفة الغربية وغزة ، حتى يطلع الزائرين وخاصة الأجانب منهم على القضية الفلسطينية من خلال مجسمات تستحضر كل ابعاد وتفاصيل القضية من التهويد الذي يجري في القدس وعمليات هدم البيوت الأثرية، الحواجز العسكرية المنتشرة في الضفة، المستوطنات ، قضية الأسرى ، معتبراً أن عمله في تجسيد "النكبة الفلسطينية" هو بمثابة رسالة موجهة للمجتمع الدولي، والصمت العربي القاتل كما وصف .
ويحيي الفلسطينيون يوم (15 مايو/أيار) من كل عام ذكرى النكبة، ليتذكروا ما حل بهم من مأساة إنسانية وتهجير، والعجيب أن هذا اليوم يتوافق مع ذكرى إعلان قيام دولة إسرائيل على ارض فلسطين التاريخية، وذلك في إشارة إلى أن كل ما قامت به العصابات الصهيونية من جرائم بحق الشعب الفلسطيني كان من أجل التمهيد لقيام هذه الدولة التي أريد منها أن تكون دولة لليهود فقط.
تقرير/طارق الزعنون
عدسة/ محمود عيسى