يا كل المدن التي انطفأت أنوارها لتشتعل بعدها في ذاكرتي التي تحفظها عن ظهر قلب دون أن أراها .. أعشقها لأنها تحفظ ظل أجدادي وديعة لدى الفجر القادم والذي يحمل حلم سيرتنا الطويلة لنحلم بأن تنغرس أقدامنا في رمال شواطئها مرة أخرى ... ولأنها تشبه كل ما فينا من تفاصيل طبعت بصماتها علينا وصبغتنا بلون رمالها وجبالها ووديانها التي تعبنا لفرط انتظار عودتها ، كم عطشنا حد لن يروينا إلا رذاذ الملح المنثور على أسطح مدننا المختلط بهواء البحر الذي يحتضنها من الشمال إلى الجنوب .
هكذا في كل موسم نكبة يندلق الحنين ويندلق الحب ألما حين تنفتح جروح الذاكرة على مدن يحرقنا جمر الحرمان من زيارتها وهي المفتوحة لكل الكون والمغلقة في وجوه الذين شيدوا بعظمهم كل البيوت وسقوا بعرقهم كل شجرة ورصفوا بجلودهم كل الشوارع .
أنا جائع لمساء في مدن أحلامي البعيدة والتسكع في شوارعها والجري كطفل على رمل الشواطئ ، من حقي ككل البشر أن أعيش في مدينتي التي أريد والتي أعشق فما أصعب أن تمضي الحياة على رصيف انتظار محطة لقطار لن يأخذك إلى هناك لتمارس الحياة حلما في حيفا ويافا و غيرها ثم تهرب تلك الحياة مع أول افاقة .
كيف تم ذلك وكأن التاريخ يصفي حسابه معنا ، أو ندفع لوحدنا فاتورة أخطاءه الطويلة والمريرة ، وكيف يمكن أن تسرق حضارة عشرة آلاف عام مكافأة لسيف يهوشع بن نون بدل أن يدفع هو ثمن الجريمة الأولى وحرق المدينة الأولى أريحا مدينة القمر والتي أهدت للعالم تجربة المدينة .
كيف يمكن للشر أن يجتمع ليمارس شهوة القتل والطرد والتدمير والترحيل والحرق والاغتصاب لمدن لديها من فائض الطهر منذ مسرى الرسول وتعاليم عيسى التي تغلفها بالبراءة والمحبة ما أشع نورا للبشرية جميعها ؟، وكيف يمكن أن يقبل التاريخ أن ينطفئ ذلك النور الذي أضاء وجه كل المدن ؟
مدننا التي تنام على الشواطئ المفتوحة على كل الكون منذ القدم أنتجت حضارتها المشعة ، واختلطت بحضارات أوروبا لتعكس نموذج الانفتاح والتقدم والتعدد لتكون الأجمل في المطلة على البحر، كيف يمكن أن تغلق وتتحول إلى مدن الغيتو وتتغير أسماءها حد التشوه لتصبح عكا عكو ، ويافو بدل يافا، وأشكلون بدل المجدل في محاولة ليس للاعتداء على التاريخ فقط، بل للاعتداء على الذاكرة أيضا .
كنت في يافا قبل عقدين كان شلومو يسير على الطرف المقابل للرصيف مرتديا ثوب المضيف ، كان علي أن أمثل دور الضيف وألتزم بشروط الضيافة وصرامة من استولى عليها ،يا لسخرية الأقدار حين تنحرف الحياة وتتغير الأدوار في مسرحية العبث الدائم بحقنا لنصبح نحن النص الثابت في المشهد الأطوال في كل نصوص التراحيديا المؤلمة .
يزدحم بريدي الالكتروني بصور لمدن فلسطين،وتلك ترش ملحا على الجرح المفتوح باتساع المسافة بيننا وبين تلك الأماكن الأكثر سحرا بكل الفصول التي ينافس خريفها أجمل زهور الربيع في مدن العالم ، أشعر بالرغبة بنسمة صيف من هواء الجليل لتعيدني إلى الحياة ، أن أرى الكون من على جبل الشيخ ، أحلم بالنعاس على جبال الكرمل ، أحن كثيرا إلى عناق صدر حيفا وقبلة أطبعها على جبهة يافا، أن أغني طويلا على ترنيمة أجراس كنائس الناصرة أن أتنفس التاريخ عطرا من حجارة القدس العتيقة ، وأن امتص رحيق زهرة الزعتر من على تلك الهضاب البعيدة والقريبة .
في ذكرى النكبة يعود السؤال الكبير ليسقط ما تبقى من أوراق توت يحاول الضمير العالمي الغائب عن أحداث الهولوكوست الفلسطيني المتكرر منذ أكثر من ستة عقود أن يختفي خلفها في محاكمة العدالة الدائمة ، وفي كل مرة يرسب فيها ضمير العالم تنفتح أكثر شهوة القتل والاستيطان والعنصرية إلى الحد الذي يصفع يوميا كل العواصم في العالم والمشاركة في أطول مؤامرة للصمت في التاريخ الحديث .
كيف يمكن أن تستولي جماعة دينية على أرض لشعب منذ آلاف السنين وكيف لأكبر عملية سطو في التاريخ أن تستمر إلى الآن ؟ويستمر تشتت شعب نما وتشكل وطور هويته على هذه الأرض فقد صدئت مفاتيح البيوت لكن الذاكرة لا زالت تنبض حنينا كأنه انتزع لتوه وكأن العشاء لم يبرد هناك بعد .
هناك حيث كان العرس المختلط .. والصبايا يملأن جرارهن من الغدران في القرى وهناك حيث كانت المدن تعج بالأسرار والحياة ...هناك حيث بيوت الطين والقش التي ارتسمت كلوحة فنان ، هناك حيث الشواطئ تنتظر أهلها ، تسافر القلوب وتعود مراكب الحزن محملة بما تكدس من ألم الحنين ...هناك حيث المدن التي لا تنسى ستبقى صواري الحلم مشرعة حتى تعانق المنارات وإلى أن تصل سأظل أحلم بأني هناك ...!!!!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت