السياسة ،كعلم الدولة وعلم السلطة، لا تقوم إلا بوجود الإستراتيجية ، فالسياسة بدون الإستراتيجية تتحول لحالة من الفوضى ولفضاء من الأفعال وردود الأفعال يختلط فيها: القانون، القوة ،المصلحة ،الدين ،العواطف والانفعالات ،الأيديولوجيات ،العنف ،الإرهاب الخ ، دور الإستراتيجية عقلنة كل ذلك وتوجيهه لمصلحة الأمة .فالإستراتيجية بما هي رؤية وتخطيط بعيد المدى تحيط بكل المصالح والمخاطر القومية ،تربط الحاضر بالماضي وتستشرف المستقبل وتنطلق من رؤية علمية للواقع بكل مكوناته وتشابكاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية ،المحلية والدولية ،إنها فن التوفيق بين الإمكانات القومية بكل مكوناتها من جانب والأهداف القومية من جانب آخر، هذه الإستراتيجية هي الأساس الذي تقوم عليه سياسات الدول والكيانات السياسية العقلانية . الإستراتيجية تؤسس على المصلحة الوطنية العليا أو ثوابت الأمة التي هي محل توافق وطني ولا تخضع لألاعيب السياسيين ومناوراتهم .
وضع الإستراتيجيات وتنفيذها مرتبط ارتباطا وثيقا بوجود مؤسسة قيادة ، وهذا ما أكد عليه القائد الاستراتيجي الألماني مولتكه (Helmuth von Moltke) حيث عرف الإستراتيجية بأنها : (الملائمة العملية للوسائل الموضوعة تحت تصرف القائد للوصول إلى الهدف المطلوب) ، كما تعتمد الإستراتيجية على مراكز دراسات وأبحاث ومتخصصين في مختلف المجالات ،وما يميز القيادة كمؤسسة عن رجال السياسة و الزعماء العابرين أو المتطفلين على الشأن السياسي ، أن الأولين يشتغلون في إطار رؤية إستراتيجية للمصالح القومية العليا فيما الآخرون يشتغلون ضمن رؤية ضيقة ترتبط بالمصالح الشخصية والحزبية الضيقة،وهدفهم السلطة ومنافعها ،الأولون يعتبرون أن السلطة أداة لتحقيق مصالح الأمة فيما الآخرون يعتبرون السلطة هدفا بحد ذاته وقد يضحون بمصالح الأمة من اجل السلطة .أية ممارسة سياسية بدون إستراتيجية تصبح نوعا من العبث والتهريج أو مجرد إدارة يومية لشؤون الناس وللازمات السياسية دون إمكانية للانتقال من إدارة الأزمة إلى حلها .
إذا كان المفهوم العام والمعاصر للإستراتيجية لم يعد شأنا يخص الدول فقط بل يتجاوزها إلى المؤسسات والشركات والتعليم الخ ،لأن الإستراتيجية باتت رديف العقلانية في إدارة الكيانات الكبرى،فإن الشعوب الخاضعة للاحتلال وحركاتها التحررية أحوج ما تكون لإستراتيجية كفاحية وسياسية لمواجهة الاحتلال، وقد وعت كل حركات التحرر الحاجة للإستراتيجية فوضعت النظريات حول استراتيجيات حرب العصابات وحرب الشعب والمقاومة الشعبية والعصيان المدني الخ. أهم مكونات إستراتيجية حركات التحرر الوطني هي الاتفاق على الأهداف الوطنية وعلى الوسائل أو الأدوات المفضية لتحقيقها ،ودائما يرتبط نجاح أو فشل استراتيجيات حركات التحرر ليس باختلال موازين القوى مع العدو بل بمدى وجود مؤسسة قيادة قادرة على تعبئة الشعب وحشده حول برنامجها الوطني.
في الحالة الفلسطينية يبرز غياب الإستراتيجية من خلال غياب التوافق على الأهداف العليا أو الثوابت والاختلاف حول الوسائل والاختلاف في تحديد معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء وحول تحديد الهدف الوطني،وحتى مع القول بان الهدف هو الدولة فإن غموضا والتباسا يسود حول مفهوم وحدود الدولة.هذا الغياب للإستراتيجية أدى لفشل معمم على كافة الأصعدة ،وأدى لحالة تيه سياسي تتخبط فيه كل مكونات النظام السياسي وخصوصا بعد انقلاب حركة حماس ووصول المفاوضات لطريق مسدود, لذا فإن حالة الفشل والشلل التي تصيب القضية الفلسطينية ليست قدرا من السماء ولا تعود لإسرائيل فقط ،فالقدر محايد في الشؤون السياسية،وإسرائيل وإن كانت عدوا قويا إلا أن حركة المقاومة والجهاد ما وجدت إلا لمواجهته وليس تبرير عجزها بوجوده، إن الخلل يعود لغياب إستراتيجية فلسطينية واضحة سواء إستراتيجية تعبر عن مرحلة التحرر الوطني وتلتزم بمقتضياتها أو إستراتيجية تعبر عبر مرحلة بناء الدولة وتلتزم باستحقاقاتها ، لذا وفي ظل التباعد الزمني ما بين مرحلة التحرر الوطني التي قامت على أساسها الحركة الوطنية الفلسطينية منتصف ستينيات القرن الماضي والواقع الراهن بما دهمته من متغيرات عربية ودولية وفلسطينية وعلى رأسها الانقسام والاعتراف بفلسطين دولة مراقب ،وفي ظل تعدد الاستراتيجيات الإقليمية والدولية المتصارعة حول المنطقة العربية وفي جوهرها القضية الفلسطينية ، فالأمر يتطلب إستراتيجية وطنية متعددة المسارات لا تقطع مع مرحلة التحرر الوطني ولا مع متطلبات السلام ولكن في نفس الوقت تنفتح على مسارات جديدة للعمل السياسي يؤسس على الاعتراف ألأممي بفلسطين دولة مراقب.
إن أهمية الإستراتيجية تكمن الآن في ظل مرحلة التحول الاستراتيجي نحو الدولة،ففي هذه المرحلة وللمرحلة القادمة لن تنفع تكتيكات وسياسات المفاوضين الفلسطينيين ،بل إن الفريق المفاوض وغالبية نخبة السلطة لن يصلحوا للمرحلة الجديدة،كما أن المرحلة تحتاج للانتقال من سياسة التدبير اليومي لحياة الناس والبحث عن الراتب ومنافع سلطة تحت الاحتلال تعيش على الهبات والمساعدات المسيسة والمشروطة،إلى بناء إستراتيجية وبرامج ورؤى دولة .
22/05/2013
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت