نحن والقدس والتقسيم

بقلم: علي بدوان

أبعد من مسألة فلسطينية
نصف مليون مستوطن
تقسيم زماني ومكاني
تواضع الدور العربي والإسلامي
القُدسُ تُستبَاَح، وتعيش لحظات حاسمة من تاريخها العربي الإسلامي والمسيحي، فإما أن تكون القُدس لنا -وهي لنا- وإما الركون لغول التهويد الذي يبتلِعُ ويقضم الأخضر قبل اليابس من أرضها، داخل أحيائها وعلى قوس محيطها الواسع.
القدس ومسجدها الأقصى تُستَبَاح على يد قطعان الهمجية الصهيونية من غلاة المستوطنين، وقادة وأعضاء اليمين واليمين المتطرف في الدولة العبرية الصهيونية، وحتى من تلاوين مايسمى بفصائل وأحزاب "يسار الوسط واليسار الإسرائيلي"، الذين أمسى دخولهم لباحات المسجد الأقصى كالدخول إلى أي مكان في المدينة، دون مراعاة لهيبة المسجد، ولمكانته الرمزية، والروحية، والمعنوية عند جمهور المسلمين، بل وبدأ البعض في "إسرائيل" بالحديث عن إمكانية تخصيص مساحة معينة من باحات المسجد للمتدينين اليهود.
فأين نحن الآن من واقع المدينة المقدسة في فلسطين، المدينة الإسلامية، المسيحية، العربية، الفلسطينية، في ظل تصاعد عمليات التهويد لأحيائها العربية. وهل أمسى العويل والصراخ والشجب والتنديد وبيانات الاستنكار كافية لإنقاذ المدينة من شبح التهويد الكامل، والتفريغ السكاني لها من عموم أبنائها من مواطني فلسطين؟
أبعد من مسألة فلسطينية
في البداية، لابد من الإشارة إلى أن قضية القدس تتجاوز وتتعدى المسؤولية الفلسطينية فيها، فهي مسؤولية عربية وإسلامية ومسيحية بامتياز، وهي القضية التي تُعتَبَر العنوان الأكثر عاطفية، والأرسخ رمزية، والأعمق تجذراً في الوجدان الديني والقومي والإنساني لجمهور المؤمنين من أبناء الرسالات السماوية، الذين عاشوا بها أو ارتحلو إليها كحجاج منذ فجر تاريخها، وفي كنف الدول العربية الإسلامية وصولاً الى عام النكبة، بكل ارتياح ومودة وأخوة.
إنها القضية الأكثر رمزية، والأكثر عدالة لشعب مقهور لم يَذُق طعم الاستقلال منذ ماقبل محنته الكبرى عام 1948 مع أفول لاستعمار التقليدي. وهي بهذا المعنى قضية عادلة وصارخة، لمدينة فريدة، وتاريخ فريد لشعب مازال يمتشق صهوة الفعل وإرادة الحياة، بالرغم من كل ما أحاط ويحيط به من عوامل الانكسار المفجع في موازين القوى، واستبداد طواغيت القوة، وغياب الضمير العالمي.
إن الإشارة للبعد العربي والإسلامي والمسيحي لقضية القدس مسألة بالغة الأهمية، تنطلق من أن خلاص المدينة لن يكون على يد الفلسطينيين وحدهم من أبناء المدينة، الذين مازالوا صامدين على أرضها بالرغم من كل أعمال وممارسات التهجير التعسفية، التي بُذلت ومازالت تُبذل من قبل سلطات لاحتلال لإحداث التغيير الديمغرافي الواسع فيها، لصالح أغلبية يهودية صافية على كامل حدود مدينة القدس بجزأيها الشرقي والغربي (متروبلين القدس الكبرى).
ولن يكون خلاص المدينة أيضاً على يد عموم أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948 وفي عموم مناطق العام 1967، أو حتى على يد فلسطينيي الشتات في دول الطوق المحيطة بفلسطين. فقضية القدس تنتظر أن يخرج الحديث عنها وعن مستقبلها من الإطار الفلسطيني الضيق -على أهميته وطليعيته- إلى الإطار الأوسع، بحيث نعيد للقدس اعتبارها وبُعدها (قولاً وعملاً) كقضية عربية وإسلامية ومسيحية في المقام الأول، فهي مسألة أبعد من أن تكون فلسطينية بحتة.
نصف مليون مستوطن
إن القدس ومسجدها الأقصى مُستهدفان الآن أكثر من أي وقت مضى، من قبل المستوطنين والحكومة "الإسرائيلية"، التي تصمت على ممارساتهم في إطار حملة صهيونية شاملة، حيث كان العديد من قيادات المستوطنين قد أعلنوا في الأيام الأخيرة -ولأول مرة- عما أسموه "حجيجاً إلى جبل الهيكل" أي إلى المسجد الأقصى المبارك، في حين أعلنت قيادة المستوطنين بمستوطنة "كريات أربع" الواقعة في قلب مدينة الخليل عن تنظيمها اقتحامات جماعية للمسجد الأقصى خلال الفترة القادمة.
إن كافة الأحزاب والكتل في الخارطة السياسية "الإسرائيلية"، بل وعند الصهاينة عموماً تريد أن تبقى مدينة القدس الموحدة بشطريها الشرقي والغربي العاصمة الأبدية لدولة "إسرائيل"، والتي تم توسيع حدودها الإدارية لتمتد مساحتها على ربع مساحة الضفة الغربية، التي تصل لنحو (5800) كيلومتر مربع.
فهناك شبه إجماع على تثبيت قرار ضم مدينة القدس وتهويدها، باستخدام كل السبل المؤدية إلى ذلك، وفي طليعتها -بالطبع- عمليات الاستيطان الرامية إلى "خلق الوقائع الديمغرافية الجديدة على الأرض"، فقد قفز عدد المستوطنين اليهود في محيط المدينة والمنطقة الشرقية منها، وفي كتل المستعمرات الضخمة (معاليه أدوميم + جبعات زئيف) التي تُزنرها، وفي عموم أحيائها العربية الإسلامية والمسيحية، من (165) ألفا عام 1970 إلى (500) ألف مستوطن مع نهاية العام 2012، فيما لم تهدأ بلدوزرات الاحتلال والزحف الاستيطاني بالتمدد شمال شرق القدس وشمال غربها، بهدف إيجاد غالبية يهودية، لذا مُنع عملياً التوسع العمراني الفلسطيني في الناحية الشرقية والشمالية الشرقية للمدينة.
تقسيم زماني ومكاني
في هذا السياق، فإن الخطر الكبير الداهم على المسجد الأقصى، ومدينة القدس عموماً يطل الآن عبر مجموعة من المقترحات التي بدأت قوى اليمين واليمين المتطرف في "إسرائيل" ببلورتها والتنظير لها، من أجل إقرار مايسمى بخطوات "التقسيم الزماني والمكاني" لباحات المسجد الأقصى، بما يسمح بدخول غلاة المتطرفين من اليهود، مثلما فعلوا بالمسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل بقوة السلاح، بعد أن هاجمه المجرم الصهيوني باروخ غولدشتاين الذي قَتَلَ عشرات المصلين أثناء صلاة الفجر في الخامس والعشرين من فبراير/شباط 1994، لتنتهي جريمته البشعة بإقامة نُصبٍ تذكاري له في مسعمرة (كريات أربع) الواقعة في قلب مدينة الخليل مع إحداث التقسيم (الزماني والمكاني) للمسجد الإبراهيمي، الذي بات يدخُلُهُ عتاة وغلاة المستوطنين من اليهود الصهاينة في أوقات محددة.
وتناسبا مع ما أقرّته سلطات الاحتلال في المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، يتوقع أن تسعى بالاتجاه ذاته على صعيد المسجد الأقصى في حال تهاون العرب والمسلمين في أمره، فالخطوة التي تَعمل من أجل إنجازها مجموعات وقوى المستوطنين وحكومة نتنياهو بإحداث التقسيم (المكاني والزماني) لباحات المسجد الأقصى، ستُشعلُ فتيل الانفجار الكبير في فلسطين، كما حصل مع دخول الجنرال أرييل شارون لباحات المسجد الأقصى، وما تولد عنه من انفجار شامل للانتفاضة الفلسطينية الكبرى الثانية في يوليو/تموز 2000.
فتلك الخطوة التقسيمية لباحات المسجد الأقصى ستكون في حال تنفيذها، بمثابة الخطوة "الإسرائيلية الصهيونية" الكبرى لإنهاء وجود المسجد وهويته الإسلامية ورمزية المدينة المقدسة، وهو أمر لن يكتب له النجاح، بل يُتوقَع له أن يُطلِقَ شرارات الانتفاضة الكبرى الثالثة في فلسطين بأسرها.
تواضع الدور العربي والإسلامي
إن خطوة قوى اليمين واليمين المتطرف ومجموع الحالة السياسية في الدولة العبرية، بالحديث (ولو اللفظي حتى الآن) عن التقسيم (الزماني والمكاني) لباحات المسجد الأقصى ما كان لها أن تتردد على شفاه قادة الأحزاب والمستوطنين في "إسرائيل" لولا الحالة العربية (الضعيفة) أو (المتواضعة) الأداء والفعل والتأثير، بالنسبة لقضية القدس على كل المستويات، بما في ذلك المستوى المتعلق بتوفير الدعم المادي لعموم مؤسسات وهيئات وأبناء القدس، وكذلك على المستوى المتعلق بالحراك الفعّال والمطلوب في إطار المجتمع الدولي ومؤسساته، فالمدينة المقدسة تصرخ، ومواطنوها العرب الفلسطينيون تحت الضغط كل يوم في مواجهة أخطبوط الاستيطان والتهويد الزاحف.
لقد استطاع متمول صهيوني واحد -وبمفرده من يهود الولايات المتحدة ومن حاملي الجنسية الأميركية إلى جانب الجنسية "الإسرائيلية" واسمه (أرفين موسكوفيتش)- توفير سيولة مالية ضخمة، لدعم وإسناد عمليات التهويد والاستيطان في القدس ومحيطها، فهو يعمل منذ أكثر من عقدين من الزمن على ضخ الأموال التي يجنيها من (أندية القمار) التي يُديرها في نيويورك إلى الجمعيات اليهودية الصهيونية المعنية بتوسيع عمليات الاستيطان والتهويد في القدس المحتلة، وحتى في عموم الضفة الغربية. واستطاع بالفعل أن يؤسس لبنية تحتية ضخمة، كان ضمنها عدد من الكتل السكانية في عموم المستعمرات المقامة في القدس الشرقية، وعدد من الفنادق والمنتجعات والمرافق والحدائق، والتي تم بناؤئها على أراض عربية مصادرة أو مستولى عليها.
وعليه، فإن الخطاب الرسمي العربي وحتى خطاب القوى والأحزاب على امتداد العالمين العربي والإسلامي بالنسبة لمدينة القدس، لم يرتق لمستوى التحديات التي تفرضها خطط الاستيطان وعمليات التهويد والتهجير "الإسرائيلية" لسكان المدينة من مواطنيها العرب الفلسطينيين، وهو مايفرض إعادة مراجعة الدور العربي تجاه القدس، ومن أجل بناء موقف آخر يتجاوز (الدعم اللفظي) ويقوم على توفير الدعم الحقيقي والملموس لها على كل الصعد، لتثيبت الناس على الأرض، وتثبيت المؤسسات الوطنية الفلسطينية في المدينة، مع صياغة خطاب قانوني موجه إلى كافة دول العالم، وإلى المنظمة الدولية، لفضح السياسات والإجراءات "الإسرائيلية" في مدينة القدس الرامية لطرد مزيد من العرب، ولدفع المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات ذات معنى بهذا الشأن.

نقلا عن / الجزيرة نت

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت