من المعلوم ان نظام العولمة السائد والذي من الصعب بل من المستحيل ان تواحهه بكفاءة تلك الامم التي لا يوجد لها نظام تراثي راسخ ومتماسك ومعمول به. وفي نفس الوقت، فالعولمة الفكرية والثقافية ذات مردود اقتصادي وتسعى من خلالها الشركات متعددة الجنسيات لتشويه دوال الاستهلاك لدى الدول التابعة (المفعول بها) بما يتوافق ودوال انتاجها مما يزيد من قدرتها على التحكم بالأسواق الاستهلاكية الدولية.
ومن حق الامم مجابهة ذلك، فالتنمية لا تعني فقط رفع مستوى المعيشة وتحسين مستويات الاستهلاك بل ان يكون ذلك في ظل توفير تعليم افضل يولي اهتماما بالقيم الثقافية وتحرير الافراد من التبعية الاستهلاكية والثقافية والانهزام النفسي مما يولد انتماءً وعزة للنفس على المستوى الفردي. فالمتطلبات الذاتية للمجتمع او لأي فئة مجتمعية يجب اشتقاقها من النظام القيمي للمجتمع والذي يبلور المرغوب من المنبوذ.
وفي هذا السياق، فمن الغريب ان يتم رفض سياسة الحكومة السائدة بغزة بالكلية في مجابهة بعض الظواهر الموبوءة على خلفيات غير موضوعية وان تنسحل القيم المجتمعية على هذا البنطال الساحل بالدفاع المطلق عن هكذا ظاهرة. فلم نعد نناقش مثل هذه القضايا سوى من زاوية الحرية وتجاهلنا ان هذه الحرية بالأساس مقيدة، وإلا فأيكُم مع ايِكم حريته مطلقة. ومن هنا فان النشء والشباب المراهق والشباب عموما لا بد له من رعاية تربوية ووصاية مجتمعية مكثفة دون غيره من الفئات وقد كنت كتبت مقالا فيه رسالة لوزير التربية والتعليم يضم مقترحا فيه محاوله لتعليم النشء بعض القيم التي نفتقدها. وهذا دأب المجتمعات التي تعرف وتسعى لما تريد في الحفاظ بل وتشكيل هويتها وقيمها كما تشاء.
ولكن زمن زاوية أخرى قد اتفهم ان تقوم حملة من وزارة الثقافة مثلا او التعليم او الشباب والرياضة او الاوقاف لدورها الارشادي والتوعوي او جميعهم ويمكن ان يردفوا ايضا بالكثير من الوزارات - ويا لكُثر وزاراتنا - حتى لو كان من ضمنها او اردفت بوزارة الداخلية. نعم لا يجب ان تباشر الداخلية مثل هكذا حملة لأنها تسعى لإزالة اثار فراغ قيمي وخلقي لدى شبابنا وما ترتب عليه مما لا يمت لتراثنا بصلة، وهذا ليس دورا مباشرا للداخلية بل هو انعكاس لقصور وفشل الجهات الاخرى تربوية او ثقافية او دعوية ودينية كانت. ومما يثير الاستغراب والاستهجان معا ان تباشر الداخلية ذلك وكأنها دولة داخل الدولة التي لم تولد بعد، فتنسحل مع هذا البنطال الساحل مفاهيم المهنية والتخصص والتخطيط والتربية والتعليم وتقسيم العمل والعمل الجماعي وهلم جرا.
ويلاحظ ان الاعم الاغلب من السياسات والقرارات الحكومية في غزة هي اما جبائية (مالية) او امنية وكأن لا يمكن معالجة مشاكل المجتمع إلا ماليا او عسكريا، وانا اتسائل اين كانت حكومة غزة في:
أولا:- التدفق الاعمى للسلع المختلفة التي تغزو اذواقنا وقيمنا والغريبة علينا والغير مراقبة إلا ماليا من قبل الحكومة وأين هو دور حماية المستهلك في ذلك.
ثانيا:- اين دور الحكومة الثقافي لتعزيز الاهتمام بالتراث والثقافة العربية والإسلامية وتفعيل الدور الرياضي والشبابي والدعوي بما يواجه تيار العولمة الجارف.
ثالثا:- اين دور الحكومة في الرقابة على فلسفة التعليم الخاص والتباين الحاد بين فلسفة اهداف بعض اطراف القطاع الخاص وفلسفتنا المنشودة في فلسطين. بالإضافة لانعدام الجهود اللامنهجية في القطاع التعليمي.
وعليه فيجب على الحكومة ان تنظر لهؤلاء الشباب كضحية لبعض ممارساتها وضحية للغزو الاعلامي والفكري الجارف في ظل عجز اسلامي وعربي على مواجهته، وان تتخلى عن عسكرة سياساتها في مواجهة مشاكلنا الثقافية والفكرية وان تواجه ذلك بموضوعية افضل.
د. محمود صبرة
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت