خلال انعقاد منتدى دافوس الإقتصادي العالمي على الجانب الأردني من شاطيء البحر الميت حضره قادة ووزراء ومؤسسات اقتصادية كبرى ورجال أعمال من مختلف الدول ، السياسة طغت على الإقتصاد مع أن القاعدة تقول ، الإقتصاد تعبير مكثف عن السياسة، إذ ركّز الحاضرين على الجوانب السياسية لقضايا المنطقة المتفجّرة بغلاف اقتصادي لعلّه يحقق مافشلت به السياسة على مدى عقدين كاملين من الجهود العبثية وبطبيعة الحال السبب المعطّل معروف لدى الدول الكبرى والمؤسسات الدولية كما هو معلوم للجنة الرباعية التي يفترض بها متابعة هذا الملف ثم تقلص دورها واقتصرعلى وجود ممثلها شبه المقيم "طوني بلير" المهتّم بتوسيع مشاريعة الخاصة بالتعاون مع أصدقائه الجدد من اصحاب رؤوس الأموال اليهود وبعض الفلسطينيين الذين يهرولون باتجاه التطبيع المجاني ، وهذا الإستعصاء ناجم عن عدم اكتراث حكومات الإحتلال المتعاقبة بالتسوية السياسية للقضية الفلسطينية تعيد الحقوق لأصحابها الشرعيين نتيجة اختلال موازين القوى وفقدان أوراق الضغط العربية والدولية وانحياز الإدارات الأمريكية للمخططات الإحتلالية على اعتبار أن هذه العملية ستمسّ بالركائز التي قام عليها الكيان الصهيوني من الناحية الأيديولوجية والعقائدية لذلك ذكّر "نتنياهو" المجتمعين بأن المشكلة لاتكمن بعملية السلام إنما هي مسألة وجودية تتعلق بالإعتراف بيهودية الدولة وأمنها ، ترجمها على أرض الواقع بأجراءات هدم المنازل في القرى العربية ومدينة القدس المطوّقة بالجدران لعزلها عن محيطها إضافة إلى تنفيذ عطاءات التوسع الإستعماري الإستيطاني وشق الطرق الإلتفافية للمستوطنين التي تعبّر بشكل صارخ عن سياسة التمييز العنصري لهذا الكيان .
وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الحاضر بقوة في هذا المنتدى بعد اربع جولات مكوكية في المنطقة للبحث عن سبل إحياء رميم المفاوضات المتوقفة منذ سنوات ، اكتشف أن مبادرة جديدة اطلق عليها إسم "كسر الجمود " يمكن أن تشكل أداة ضاغطةً على كلٍ من الفلسطينيين والإسرائيليين لإحراز اختراق على المسار السياسي أبطالها مستثمرين من الجانبين والحقيقة تقال أن الوزير أسهب مطولاً بالحديث عن مزايا هذه الخطة التي ستجلب الرخاء الإقتصادي للمجتمع الفلسطيني وستقلل نسبة البطالة وسترفع مستوى الرواتب الى مايقارب 40% وخلق فرص عمل من خلال مشاريع صناعية مشتركه وإقامة مطار فلسطيني الخ.. لأجل ذلك رصد مبلغ أربع مليارات دولار أمريكي على مدى الثلاث سنوات القادمة دون أن ينسى وعوده السابقة عن حزمة من إجراءات بناء الثقة حسب وصفه وإطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين القدامى الذي يعود اعتقالهم إلى ماقبل توقيع اتفاق أوسلو ، كذلك وعد الحاضرين وبشكل خاص الرئيس الفلسطيني الذي أشار في خطابه إلى رفض الحلول المؤقتة أو البديلة عن الثوابت التي حدّدتها القيادة الفلسطينية ،أن هذه الخطة كما قال ليست بديلة عن حل الدولتين التي التزمت إدارته بها ولا زالت عازمةً على تحقيقها رغم الصعوبات، لكن الملفت للنظر في خطابه المطوّل لترويج خطتّه لم يتطرق إلى الإستيطان السرطاني المنتشر على كافة الأراضي الفلسطينية ولا عن جدار الفصل العنصري الذي يتلوى كالأفعى داخل الأراضي الفلسطينية يقطع أوصالها ويمنع المواطنين من الوصول إلى أراضيهم ومزروعاتهم كما تجاهل عدوان قطعان مليشيا المستوطنين المدعومين من جيش الإحتلال ، بالإضافة الى الحدود وقضية اللاجئين التي تعتبر جوهر القضية الفلسطينية وأغفل تماماً قرارات الأمم المتحدة 194 الصادر عام و237 لعا 1967 ذات الصلة بالقضية الفلسطينية ،مايعني استحالة تجسيد الدولة الفلسطينية على أرض الواقع.
لاندري إذا كان السيد كيري يعلم ونظنّه كذلك كونه سناتور قديم ومرشح سابق للرئاسة شغل منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس الأمريكي قبل أن يصبح وزيراً للخارجية خلفاً للسيدة كلينتون أن خطة السلام الإقتصادي ليست مبتكرة بل صهيونية المنشأ وقد سبق لثعلب السياسة المخضرم "شمعون بيرس" الرئيس البروتوكولي الحالي لكيان الإحتلال والحاضر أيضاً أعمال المنتدى، نشرها على الملأ بكتاب ترجم إلى اللغة العربية بشكلٍ مبكر إظهر فيه رؤيته للشرق الأوسط الجديد بعد التوقيع على اتفاق اوسلو مباشرة ثم تبناها مؤخرا رئيس الحكومة اليمينية المتطرفة كعلاقات عامة يوظفّها لتضليل المجتمع الدولي والتهرب من أي التزامات تجاه عملية التسوية يوفّر له المزيد من الوقت يستطيع خلاله فرض سياسة الأمر الواقع ، لهذا فإن العزف على أوتار الإقتصاد مقابل الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني ستبوء بالفشل الذريع من الناحية العملية الموضوعية لأن جذر المشكلة يكمن بالإحتلال العائق الأول في خلق مناخ إقتصادي ملائم قادر على المنافسة كما ينشده السيد كيري ، لايجب أن يراود أحد الشكوك بأن الشعب الفلسطيني بعد كل هذه التضحيات والعذابات يمكن أن يلهث وراء فتات موائد الدول الكبرى أوخطط محبوكة في دهاليز قوى النفوذ الصهيوني لإنقاذ حكومة التطرف العنصري من أزمته السياسية والإقتصادية والإجتماعية المتفاقمة ولا تعود بالنفع على المواطن الفلسطيني .
إن هروب الإدارة الأمريكية من مواجهة الحقائق وانحيازها السافرللإحتلال يعني الإصرار على سياسة المراوغة وإبقاء الوضع الراهن على ماهو عليه ومحاولة متكررة لبيع الأوهام تارة عبر التأجيل وتارةً أخرى عبر مشاريع لاطائل منها سوى تشريع العدوان وحمايته من المسائلة القانونية الدولية ، من هذه الزاوية لابد من أن يجيب السيد كيري عن الكيفية التي يمكن بها تخطي عقبات السيطرة الإسرائيلية على مصادر المياه الجوفية التي تحرم المواطن الفلسطيني من استخدام مياهه وريّ مزروعاته، كما ينبغي الإجابة عن حرية التنقل والتحكم بالمعابر الخارجية والداخلية بالإضافة إلى مستقبل اتفاقية باريس الإقتصادية المجحفة التي جعلت الإقتصاد الفلسطيني ملحقاً ثانوياً بالاقتصاد الإسرائيلي ثم ماذا عن توفير المناخ الأمن للإستثمار وكذا القوانين التي تتيح انسيابية الحركة المالية والتجارية اللازمة، فضلا عن عوائق جدران الفصل العنصري والحواجز الثابتة والمتحركة ، فهل أخذت خطة وزير الخرجية الأمريكي كل هذه القضايا بعين الإعتبار حتى يضمن انطلاقتها على أقل تقدير أم أنها بحاجة الى عشرين سنة أخرى من المفاوضات لتمريرها على مراحل ؟ لقد بات مطلوبا من القيادة الفلسطينية الإنتقال من مرحلة السلطة إلى مرحلة تجسيد الدولة وأن تمضي باتجاه الإنضمام إلى المؤسسات الدولية المنبثقة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة وخاصة محكمة الجنايات الدولية واستخدام حقها بمحاكمة مجرمي الحرب ومحاكمة الإحتلال على جرائمه التي يندى لها جبين الإنسانية ، وعلى المستوى الداخلي لابد من ايجاد السبل الكفيلة للخروج من حالة الإنقسام وتطوير مؤسسات العمل الوطني وتفعيل الفعل الجماهيري القادر على التصدي للإحتلال وقطعان مستوطنيه .
الإدارة الأمريكية ليست جادة في مسعاها وتحركها يأتي في سياق إدارة الأزمة وابقائها حاضرةً في المشهد الدولي بانتظار ...ليس إلا ...
كاتب سياسي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت