السلام الاقتصادي

بقلم: محمد علي الحلبي


دوامة جديدة يريد السيد″جون كيري″وزير الخارجية الأمريكية إضافتها إلى دوامات الحلول السابقة التي اعتادت أمريكا تسويقها بشأن ما بات يُعرف بالحل السلمي للقضية الفلسطينية....عمر ذلك بدأ منذ عام النكبة واحتلال الأرض العربية،واشتد أوار مشاريع الحلول أكثر بعد عام1967،بل وأكثر عند قيام السلطة الفلسطينية لكن هذا الأوار الشديد الحرارة كان في كل مرة يحرق بنداً،أو جزءاً من بند الحقوق الوطنية حتى باتت جميع المبادرات التي قُدمت منذ شعار الأرض مقابل السلام في مؤتمر مدريد في أواخر القرن الماضي جوفاء من مضامينها اللهم إلا من عامل الزمن الذي استغرقته تلك المقولات....مما أكسب إسرائيل الوقت لتحقيق أهدافها في الاستيطان ومحاولة هضم الحقوق تباعاً وصولاً إلى شعارها الأخير بيهودية الدولة، وشعار السلام الاقتصادي الذي سنحاول الكشف عنه في إطار المبدأ والوقائع فمن حيث المبدأ فهو خدعة جديدة يجب رفضها لأنها في جذورها إسرائيلية تبناها ″كيري″ في زيارته السابقة للأرض المحتلة محاولا إيجاد المبررات لها, أثناء زيارته الجديدة منذ أيام، وهنا يدعونا القياس والاستنتاج المنطقيين للاعتقاد بموتها كسابقاتها لأنها من حليف استراتيجي مع العدو،وعداؤه للأمة العربية مشهود به وبالتالي فالادعاء بالحيادية وهم تسوقه الإدارة الأمريكية مأثورة وقائعه حتى بات الحديث عنها،وإعادة روايتها اجترارا لماض ثبت العداء فيه ،وسؤال جدير بالطرح وبعد تلك الخيبات هل السلام سياسي، أم اقتصادي؟!....ومتى كانت التنمية الاقتصادية في ظل الاحتلال ناجحة وتحقق أغراضها؟!.....

إن السلام، وقيام الدولة المستقلة، والتنمية الذاتية شروط واجب التمسك بها لأن فيها السلامة...كل السلامة ، ولنسر بتؤدة مع تسلسلات الأحداث لنكتشف، أن ″شمعون بيريس″الرئيس الحالي لإسرائيل والمعروف أنه ممن ساهم في احتلال الأراضي،وهو الراعي الأساسي لفكرة نووية إسرائيل،ففي كتاب له نُشر عام1993تحت عنوان (الشرق الأوسط الجديد) يطالب الأمة العربية بنسيان تاريخها،والتخلص من لغتها،ونظرته شمولية واسعة المساحة معرباً عن قلقه من فقدان إسرائيل لنموها السكاني مقابل تزايد المواليد الفلسطينيين، مما يُشكل خطراً كبيرا على بنيتها الاجتماعية لذا يقول " لن نكون قادرين على استيعاب الأعداد المهاجرة إليها،أو المقيمين فيها من أهلها واضعا بنوداً أساسية للسياسة الإسرائيلية الحالية والمستقبلية منها بقاء القدس تحت السيطرة،ورفض عودة الذين غادروا بلادهم،ومقترحاً ضرورة التعاون الإقليمي في المجال الاقتصادي مضيفاً بتشكيل كتلة من إيران،تركيا،والبلاد العربية،وإيجاد سوق شرق أوسطية واحدة،والمعادلة الاقتصادية الجديدة ستكون عناصرها:النفط الخليجي،الأيدي العاملة المصرية،المياه التركية،والعقول الإسرائيلية وهذا يؤدي بالضرورة إلى نقل الصراع من مرحلة المواجهة العسكرية إلى مرحلة المواجهة الاقتصادية " ،وصحيح أن تطور الاقتصاد الفلسطيني منذ عام1967جرى بصورة متأزمة للغاية حيث كان مرتبطاً بشكل وثيق بالاقتصاد الإسرائيلي باعتبار أن اسرائيل كانت مسيطرةً على كل الأراضي الفلسطينية،ومع قدوم السلطة عام1993بقيت الهيمنة السلطوية والإدارية على الأرض،والتحكم بالمعابر والحدود بيد إسرائيل.
وفي نظرة محددة للعلاقة مع الفلسطينيين فإن مركز بيريس ″للسلام″ يستخلص في وثيقة سياسية أصدرها أن يكون التحسين الاقتصادي مرافقاً وداعماً في الترويج للعملية السياسية عبر إدارة يترأسها وزير إسرائيلي خاص تقوم بمشاريع مشتركة مع الفلسطينيين بالتنسيق مع المجتمع الدولي واللجنة الرباعية،والسلطة الفلسطينية بدعم من الخبراء بالمجال الاقتصادي تنشط جميعها في تأسيس وتنفيذ مشاريع اقتصادية في الأراضي الفلسطينية،ولابد من أن نتذكر هنا عشية توقيع اتفاق أوسلو عام1993....يومها تمّ الترويج لمقولة تحويل قطاع غزة إلى سنغافورة الشرق الأوسط،وتحويل الضفة الغربية إلى ماليزيا المنطقة.

ومن حيث الوقائع : واقع مؤلم،ولكن السلطة عززته بزيادة الإنفاق من الموازنة سيما كتلة الرواتب والأجور،والتي فاق عدد العاملين لديها عن عدد العاملين في لبنان الموازي تقريباً لها في المساحة ولديه جيش بينما لا توجد في الضفة سوى أجهزة الأمن المطلوب منها التنسيق مع العدو الصهيوني ،وفوق كل ذلك فقد وقعت في مسلسل الخيبات،وفي26نيسان عام1993وقعت على بروتوكول باريس حيث جاء كرزمة واحدة غير قابلة للتجزئة كتب عنه″سميح شبيب″الكاتب الفلسطيني صاحب المؤلفات العديدة،وهو من مواليد حيفا عام1948ومقيم في رام الله،وتحت عنوان اتفاق باريس وتداعيات بقائه يقول:″إنه ضار بالمسار الاقتصادي الفلسطيني،بل مقيد له في مسار التطور والإنماء،والاعتماد على الذات....بنود الاتفاق تمس الناس مباشرة...تمس زراعتهم وصناعتهم،ومواد استهلاكهم،وعلى هامش ما تعانيه السلطة من أزمة اقتصادية متفاقمة وصلت حدّ عدم تمكنها من الإيفاء بأبسط التزاماتها وهي دفع الرواتب....تصاعدت حدة الحراك الشعبي الفلسطيني،بل واتخذ اتجاهات شديدة الخطر حيث رفع المتظاهرون شعارات جادة أبرزها ضرورة إلغاء اتفاق باريس″ وفي رأيه فإلغاء اتفاق ما يتطلب موافقة طرفي النزاع كما ويحتاج إلى دعم قومي من لدن المجتمع الدولي،بينما الكاتب ″سامر أحمد يوسف″ يفند في دراسة تفصيلية مواده وبنوده،فعن اللجنة المشتركة التي اعتمدتها المادة الثانية فهي معنية بمناقشة المواضيع المتعلقة بدعم وتطوير التعاون الاقتصادي،واللجنة تعدت كثيراً الاتفاق لدرجة أن إسرائيل تحدد من خلالها كمية ونوعية ومواصفات السلع المسموح باستيرادها،والمادة الثالثة وفي أحد بنودها19تُلزم الفلسطينيين باستخدام المعدلات الإسرائيلية للجمارك وضريبة المشتريات،والجبايات والرسوم الأخرى،وهذا سيُحمل المستهلك الفلسطيني أعباء كثيرة من أجل حماية الصناعة الإسرائيلية،ومعدلات الجمارك تقدر بـ70%من قيمتها الشرائية مما يؤثر سلباً على مستويات المعيشة الفلسطينية،والاتفاق حرم الفلسطينيين من استخدام التبرعات العينية لأغراض تجارية،ففي حال حصول السلطة على تبرعات عينية لمشتقات النفط بأسعار مخفضة من الدول الخليجية فلن تستطيع استخدامه لأغراض تجارية إلا بعد دفع الجمارك وضرائب الاستيراد،وبيعها بسعر لا يقل عن15%عن السعر الرسمي في إسرائيل خوفاً من تحول المستهلكين الإسرائيليين لشراء البنزين من المناطق الفلسطينية، وفُرضت العملة الإسرائيلية عملة رسمية منذ عام1967ولقد أعطيت السلطة والبنك المركزي بعض الحقوق المالية والنقدية باستثناء إصدار عملة وطنية إضافة إلى أن المادتين الخامسة والسادسة تلزمان إسرائيل بتحويل75%من ضريبة الدخل المحصلة من العمال العاملين في إسرائيل،وكل ضرائب الدخل من العمال العاملين في المستوطنات الإسرائيلية،وهكذا حدّت من قدرة دفع عجلة الاقتصاد الفلسطيني من خلال حماية صناعاتها بزيادة الضرائب على المواد الداخلة في الصناعة حيث فرضت معدلاً لا يقل عن2%من معدلها في إسرائيل وهو14%،والفلسطينيون حُولوا إلى أيد عاملة في إسرائيل ومستوطناتها،وأضر الأمر العسكري الذي منع المنتجات الزراعية الفلسطينية من الدخول إلى إسرائيل إلا بتصريح مما ألحق ضرراً كبيراً للمزارع الفلسطيني وحمى المزارع الإسرائيلي.

إنه غيض من فيض تلك النكبات التي حاقت بالاقتصاد الفلسطيني بالرغم من ضعفه،والكاتب يعبّر عن ذلك بقوله:″جاء الاتفاق الاقتصادي في ظل معادلة خاطئة تميل كل الميل لصالح إسرائيل،ومن جميع النواحي،والاتفاق يعتبر بين طرف سيد وطرف آخر تابع″ , وما ينادي به وزير الخارجية الأمريكي من خلال زياراته المتعددة وبمدة زمنية صغيرة قياساً بزيارات سابقيه،ومحاولاته الإبقاء على عدم تسريب أية معلومات عن زياراته ولقاءاته مع″نتنياهو″ومع السيد″عباس″حفاظاً برأيه على أهمية ذلك مما يتيح له إيجاد حلول سريعة لمشكلة زاد عمرها عن نصف قرن لكنه كسابقيه من مبعوثي السلام يتناغم مع المنطلقات النظرية الإسرائيلية لتسويقها عبر ما يسمى بالرؤى الأمريكية،فرغم أراء″شمعون بيريس″التي ذكرناها....فنتنياهو أيضا ومنذ أكثر من أربع سنوات تحدث عن السلام الاقتصادي،ولابد من التذكير بأن منظمة التحرير الفلسطينية ترفض أية أفكار لتحقيق السلام الاقتصادي على اعتبار أن عملية السلام سياسية بامتياز لكن ذلك لا يمكن اعتباره رفضاً نهائياً لأنه لم يؤكد على لسان مسؤول كبير إنما الصمت الملزم المرافق لتحركات وزير الخارجية الأمريكي دفعت العوامل والمواقف الوطنية بالسيد″منيب المصري″رجل الأعمال البارز،ورئيس التجمع الوطني للشخصيات الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية للإعلان أن السلام الاقتصادي بالنسبة للفلسطينيين أمر مرفوض طالما بقي الاحتلال،وطرحه يضر بمصداقية الجهود الأمريكية،وسيفرغها من معناها فالمطلوب هو إنهاء الاحتلال وليس تنمية اقتصادية تطيل عمره،وتُذهب بالحقوق السياسية والقانونية للشعب الفلسطيني لأن أية تنمية اقتصادية مقبولة للفلسطينيين تقاوم الاحتلال وتعمل على إلغائه.

وخطر آخر في المشروع سؤال يُطرح فإن خطة كيري لم تحدد هل سيكون قطاع غزة جزءا منها، أم خارج اللعبة والإطار مما يُبعد أفق المصالحة؟!....وهل سيبقى الحليفان الاستراتيجيان أمريكا وإسرائيل سيظلان يعتمدان سياسة فرق تسد من خلال شعار الجزرة مع الضفة والعصا مع غزة؟!.....ووفقاً للأخبار التي ترددت،فنتنياهو رفض طلب كيري وقفاً للاستيطان غير المعلن،ووزير المالية الإسرائيلي زعيم حزب“ هناك مستقبل " ويعد من أكثر 50 يهوديا في العالم استبعد مؤخراً أي تجميد للاستيطان،وأي تنازل عن القدس الشرقية لأنها ستكون عاصمة دولتهم المستقبلية،وصحيفة (معا ريف) الإسرائيلية تكشف عن بعض الأسرار أن نتنياهو يحاول منذ سنوات إقناع الولايات المتحدة بأن السلام الاقتصادي″مرحلة″تمهيدية وحيوية لأي اتفاق دائم بين الفلسطينيين وإسرائيل،وبرأي مسؤول إسرائيلي رفيع إن هذا التوجه ينبع من رغبة البيت الأبيض بمساعدة السلطة على مواجهة الصدمات،ولقد بدأ التحرك،فرجل أعمال أمريكي جنّده كيري لهذه الفكرة اجتمع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي،ومع مسؤولين في الجهازين الأمني والاقتصادي،وتنقل(معا ريف)عن كيري بأن نتنياهو والرئيس عباس وافقا على المبادرة لكنها تستدرك أن نتنياهو بدأ بوضع العراقيل أمام تطبيقها،فمثلاً رفض التخلي عن مساحات من الأراضي في المنطقة ″C″ الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية كاملة،وتسليمها للسلطة الفلسطينية لاستغلالها لإقامة بعض المشاريع الاقتصادية قبل استئناف المفاوضات،ورفض أيضاً فكرة السماح بإقامة مشروع سياحي كبير قي شمال البحر الميت , ولم يوافق على إقامة بعض المشاريع للبنى التحتية في مناطق السلطة.
حقائق سُقناها لنعود ونؤكد ومن خلال استقرائنا للتاريخ المعاصر أن الدوامة الجديدة والمتاهة المستمرة تعبران عن التناغم الأمريكي الإسرائيلي ضمن الثوابت التالية :
1- الأفكار إسرائيلية والتبني أمريكي.
2- الهدف من كل ذلك إعطاء مساحات من الوقت لإسرائيل لتنفيذ برامجها المرحلية وصولاً لأهدافها الاستراتيجية.
3- عند البدء بتنفيذ ما يعتمد ولو بمحاولات ضعيفة قليلة تُوضع العراقيل أمامه لتبدأ منطلقات الرفض.
4- في نهاية وانتهاء الفكرة لا بل لنقل إنهاءها عن عمد يعود الطرفان لطرح دوامة جديدة.
5- منذ أيام وأثناء وجود وزير الخارجية الأمريكي في مؤتمر " دافوس " في عمان اشترط في حديثه ربط التقدم في مباحثات السلام بعملية التنمية الاقتصادية التي اقترحها وبذا هلت بدايات الشروط وفي تقديرنا فهي لممارسة الضغوط على السلطة للتنازل عن مطالبها الحقة في العودة للمفاوضات أمام التعنت الاسرائيلي .
إنه وبجدارة عصر الدوامات،فهل سيدرك المسؤولون ذلك؟!....نرجو من الله أن يهبهم الإدراك للابتعاد عن هذا الواقع المأساوي،ووضع استراتيجية كفاحية تضامنية تتوافق وتراعي ما وصلنا إليه.

محمد علي الحلبي
دمشق: 30 - 5 - 2013

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت