لطالما كان الحديث عن النظام كسمة من سمات التحضر وأهميته في تنمية الشعوب وتقدمهم شائعا لدى الجميع ، بكل شرائحهم واختلاف مهنهم علت أم دنت. لكنا جميعا غير منظمين رغم براعتنا في الحديث عن النظام، فلا تجدنا منظمين أو منتظمين إراديا في السوق او الجامعة أو البنك او المدرسة او العمل او في المسجد أو الشارع إلا إذا أجبرنا على ذلك جبرا. وعلى الرغم من أن هناك دائما جهات مختصة في فرض النظام والحفاظ عليه إلا أنها هي التي تجد المتعة في اختراقه ومخالفته. فما أن يصبح ذاك -الذي كان ينادي بكل الشعارات والمثل وينتقد سابقيه- مسئولا حتى يحابي ويخالف أيا كانت خلفيته العقدية أو السياسية.
إن هذه المشكلة لتأخذ شكلا معقدا نسبيا وخطيرا في تلك المؤسسات أو الهيئات التي ترعى تعليم و تطبيق الجانب الأخلاقي من منظومتنا وتراثنا الثقافي والديني كالمساجد والمدارس. وعلى الرغم من اتساع الجانب الأخلاقي المرجو تعليمه من ترسيخ مبادئ الصدق والأمانة والإيثار والصبر والتطوع وغير ذلك إلا أن تعليم النظام متطلب سابق لتحقيق الكثير من ذلك.
فالمدارس عامة والحكومية خاصة والابتدائية على وجه اخص والتي يفترض أن تطبق مفاهيم التربية قبل التعليم والذي من المفترض أن تكون اقل ثماره المرجوة هي تعليم النظام. إلا أن حالة الفوضى التي تعم مدارسنا في الدخول والخروج من المدرسة والصف أو أثناء الفسحة أو طابور الصباح دون أي محاولات جادة لتعليم طلابنا النظام وتعزيز الوازع الداخلي لترسيخ هذا المفهوم. و الكارثة أن محاولات تنظيم العملية الدراسية لا تتم إلا بالعصا وكبت الطلاب وإرغامهم على منع الحديث وإلغاء لمبدأ الحوار والإقناع وغيره من ممارسات "التربويين" ما ينعكس على شكل سلوكهم العدواني والفوضوي عندما تغيب العصا. إن هذه المحاولات لتنظيم العملية الدراسية لدى النشء ما هي إلا فرض لتعاليم النظام الاداري السائد في جهاز التعليم وليس تعليما للنظام. إن هذا الأسلوب قد انعكس على السلوك المجتمعي فما أن تغيب العصا حتى تعم الفوضى والتخريب وان تتولى فئة ما مقاليد تطبيق النظام حتى تنفجر لديهم عقدة مخالفة النظام، لأنهم باتوا العصا ولا عصى فوقهم. ولا يخفى على احد ما يعانيه التربويين من انخفاض في الدخول وأوقات الفراغ وحتى الروح المعنوية، فالنهج الفوضوي السائد يعود لمكونات مجتمعية معقدة وليس تحميلا للمسئولية لشريحة المدرسين الأفاضل.
وعلى الرغم من تعاقب وزراء تعليم مختلفين ذوي خلفيات متباينة في عمر سلطتنا الفلسطينية العتيدة إلا أننا لم نلمس أي محاولات ت جادة لعلاج مشكلة الفوضى المستشرية والمزرية في مجتمعنا الفلسطيني من خلال النشء الصغير لنساهم في مستقبل واعد لهم.
اعلم جيدا أن المشكلة أكثر تعقيدا وان دور البيئة والأسرة خصوصا لدى الطفل تساهم بدور سلبي وبشكل حاد في ترسيخ السلوك الفوضوي لدي الطفل، ولكن ذلك ليس مبررا أن نبدأ بمحاولة جادة في مدارسنا، إذ أنها الهيكل الوحيد الجاهز لتطبيق أي محاولة دون تكاليف مادية تذكر.
فما هو الضرر لو خصصنا حصة كاملة بالإضافة إلى الفسحة مع تكثيف عملية التربية والتوجيه و الممارسات العملية، وكذلك مراقبة الطلاب "الأطفال" ومعالجة مشكلاتهم كل على حدة من اجل ترسيخ هذا المبدأ لديهم، دون الإجبار والفرض. إن هذا يكون بتعزيز القدرة على التعبير والحوار -بعيدا عن ممارسات الكبت التي امتاز بها قطاعنا التعليمي- . ويهدف ذلك لجعل الاداء المنظم حالة ذاتية لدى هذا النشء ومفهوم النظام مفهوما عمليا لديهم.
إن الجرعة العلمية لهذا النشء لن تتأثر بانخفاض ساعة زمنية من أوقات التدريس على مدار عام ،فليست المشكلة في الكم، لكن حياتهم ومستقبل مجتمعهم سيتأثر جوهريا إن جعلنا النظام ذاتيا لديهم. كما يمكن الاستعانة بجيوش العاطلين عن العمل من المتطوعين خصوصا من المدرسين المحتملين من خريجي التربية وعلم الاجتماع والنفس وغير ذلك. بالإضافة إلى إمكانية خلق التشابك مع القطاع الخاص لتمويل بعض النفقات الإضافية او الجامعات لتكوين ما يعرف بثلاثية الابداع Triple Helix، وهذا مشروع آخر حيوي ومتكامل. بل إن هذا يمكن أن يخلق مشروعا قوميا تساهم به كل القطاعات والهيئات المجتمعية مع حملات توعية مكثفة لدعم النشء في البيت والحي والمسجد، ولمحاولة التأثير على الفئات العمرية الأخرى للمساهمة في ذلك بل واقتباسه لأنفسهم. إن هذا سيعزز قيما أخلاقية أخرى لدى أطفالنا كالإيثار والصبر والنظافة -التي نعاني من فقدانها في أحيائنا.
وأخيرا فإني اتسائل إن لم نحاول فكيف نخلق مجتمعا ومستقبلا جديدا، إذ أن خلق حالة النظام في المجتمع الإسلامي خصوصا لا يكون إلا بتعزيز الالتزام الذاتي –أي الالتزام بالمنظومة الأخلاقية- قبل الموضوعي – أي الالتزام باللوائح والقوانين.
وأخيرا فاني أرجو لكلماتي هذه أن تلقى آذان فان لقيت أن تجدها صاغية فان وجدت أن تكون لقلوب مخلصة فان أخلصت أن تلفاها لعزيمة لا تلين.
والله من وراء القصد
د. محمود محمد صبرة
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت