إنَّ ما تشهده الساحة الفلسطينية اليوم من حقل تجارب ومبادرات في ظل الجولات المكوكية لجون كيري في المنطقة، بصرف النظر عن أهدافها، في محاولة لاستعادة (المبادرة التفاوضية) عبر دبلوماسية أشبه بالطلقة الأخيرة لإنقاذ ما بات يعرف ب(حل الدولتين)، ويأتي كل ذلك في الاختلال الفادح في ميزان القوى القائم على الأرض وداخل غرف اللقاءات والمشاورات، إذ تتحول رسالة الضحية لجلادها إلى شكوى واستجداء للرحمة في صراع يدور على الوجود والبقاء، ولا يمارس فيه الجلاد أي نوع من الرحمة، وهو يصبح كذلك، لأنه الطرف الأقوى في معادلة الصراع والتفاوض القائمة حالياً، ولا يؤمن أصلاً بفكرة تجميد الاستيطان وإنهاء الاحتلال، وفي الواقع ليس هناك ما يدفعه أو يجبره حتى الآن على تغيير سياسته المستمدة من هذا الإيمان.
وامام هذه الاوضاع لايبدو اي افق من اجل تعزيز المقاومة الشعبية وصولا الى انتفاضة في ظل اصرار الرئيس أبو مازن بتمسكه بالمفاوضات أمام جون كيري، وقال إنه مستعد للتفاهم مع نتنياهو بشأن اتفاق للسلام في الشرق الأوسط في تجميد الاستيطان .
وفي ظل هذه الظروف شهدنا بعض اصحاب المصالح من الفلسطينيين بمشاركتهم في منتدى البحر الميت الاقتصادي وفي اللقاءات والاجتماعات وههم يمارسون سياسة التطبيع الاقتصادي دون رقيب او حسيب رغم ان هؤلاء يعلمون تماما من يعطل المفاوضات .
ان التسريبات المدروسة وما تمخضت عنه جولات كيري المكوكية تحت يافطة الـ"سلامٍ الاقتصادي"، يوضح بجلاءٍ أننا أمام نسخةٍ أميركيةٍ، بريطانية الإعداد والإخراج لـ"سلام" نتنياهو الاقتصادي الشهير، أو رؤيته المعروفة للحل التصفوي للقضية الفلسطينية، ولا تخرج عنهما.
ان قائمة الخيارات المحظورة في التفكير السياسي الفلسطيني، الاستعصاء في مسار تحقيق المصالحة الوطنية، وإنهاء حالة الانقسام المدمر، وبضمنه أعادة إحياء مؤسسات (م.ت. ف) وتفعيلها، فماذا بقي من خيارات أمام الفلسطينيين سوى بقاء الوضع القائم على حاله، بما يتطلبه من المحافظة على منسوب من الاتصالات الفلسطينية- الإسرائيلية- الأمريكية عبر (دبلوماسية المكوك) التي برع فيها جون كيري.. وكذلك الحفاظ على أقصى درجات (الهدوء) على خطوط التماس مع الحواجز العسكرية والمستوطنات وجدار الفصل العنصري، وفي داخل مدينة القدس المحتلة.
ان الدعم الدولي الشعبي، الذي باتت تحظى به القضية الفلسطينية، بعد الانكشاف المتزايد لحقيقة الدولة الصهيونية، كدولة فصل عنصري، تضطهد شعبا اخر، وتصادر أرضه ومياهه، وتحول حياته إلى جحيم، ضاربة عرض الحائط بأبسط ما بات متعارفا على ضرورة حمايته والدفاع عنه، وفرض احترامه، من حقوق الإنسان. وهو دعم شاهد العالم بأسره بعض مظاهره، ولا سيما في السنوات الأخيرة، مع قدوم متعاطفين مع قضية الشعب الفلسطيني، إلى فلسطين، من شتى بلدان العالم، للتعبير عن تضامنهم ودعمهم ، مغامرين حتى بدفع ضريبة عالية لهذا الموقف وصلت مرارا إلى فقدان حياتهم، إزاء وحشية الاحتلال الإسرائيلي.
أن المدخل الأفضل لنضالنا الوطني قد يكون بتعزيز الحراك الشعبي الفلسطيني عبر حركة أكثر من رمزية، في تدمير الجدار الحاجز – إلى نضال يومي تشارك فيه جماهير واسعة، على امتداد المسافة التي يوجد فيها، ولا سيما أن هذه الجماهير الفلسطينية تستطيع الاستناد في عملها هذا إلى حكم محكمة العدل الدولية، في لاهاي، القاضي بضرورة هدمه، بسبب عدم شرعيته، وفقاً للقانون الدولي. وهو الحكم الذي عادت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد ذلك بفترة وجيزة، فاتخذت توصية بالموقف عينه، تجاهه، وذلك بأكثرية 150 دولة، ومعارضة دولتين فقط، هما إسرائيل والولايات المتحدة، وامتناع عشر دول عن التصويت. أكثر من ذلك، يمكن دعوة كل مناصري القضية الفلسطينية، عبر العالم، إلى القدوم إلى فلسطين والمشاركة المقاومة الشعبية، في مواجهة الاحتلال والاستيطان ، وهذا عمل انتفاضي حقيقي، وبصورة واضحة، تماماً، إلى ما يمكن اعتباره انتفاضة شعبية على غرار الانتفاضة الاولى.
أن ثمن الحفاظ على الوضع الراهن بالاستحقاقات المصنعة في سياق السياسة ذات الطابع الاستجدائي، سيكون باهظاً جداً، فمثل هذا الوضع يمكّن نتنياهو من توفير أقصى درجات الاستقرار لحكومة ائتلاف اليمين العنصري الصهيوني، من أجل مواصلة سياسة فرض الوقائع على الأرض بقوة السلاح والاستيطان وجدران الفصل العنصري، وفي ظل سياسة عربية وفلسطينية تتلهى باستحقاقات تقطع الطريق على إمكان تبني خيارات استراتيجية تغادر مربع المفاوضات العبثية المرتهنة بالاختلال القائم في ميزان القوى، وتسعى لتغييره من خلال إعادة النظر في دور السلطة ووظائفها، ويحول دون تحولها إلى وكيل للاحتلال، والعمل على بناء خيار المقاومة الشعبية الشاملة للاحتلال والاستيطان في الضفة الفلسطينية والقدس ومحيطها، تستند إلى تحقيق الوحدة الوطنية بإعادة تطوير وتفعيل (م.ت.ف) ومشروعها الوطني ، والاستفادة مما هو قادم على المنطقة العربية، من ترسيخ لقيم الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والتعددية التي تمثل جوهر القضية الفلسطينية من جهة، والمعادية في جوهرها لمعاني وممارسات الاحتلال والاستبداد والعنصرية التي تمثلها إسرائيل من جهة أخرى.
من هنا نقول ان الشعب الفلسطيني هو الذي يقرر اين تكمن مصلحته واين هو المسار الصحيح والرؤية الاستراتيجية التي تجتمع حولها القوى السياسية. وان المنطق يقول انه طالما فشلت المسيرة السياسية ووصلت الى الطريق المسدود، وطالما بقي الشعب الفلسطيني معلقا بين حالة اللامقاومة واللا سياسة، لذا فانه يجب ان يتم اعادة التفكير بكيفية بناء استراتيجية وطنية جديدة ومن ثم العمل على تجنيد الوضع العربي كي لايبقى الشعب الفلسطيني مشرذما وموزعا على اتفاقيات لارصيد لها. وان الشعب الفلسطيني لن يفرط بحقوقه العادلة في استعادة اراضيه المغتصبة وحقوقه المشروعة في فلسطين.
كاتب سياسي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت