كروان قادم من خلف جدار الحصار ، كسر القيد ، ورفرف بجناحيه منطلقاً بصوته العذب الطروب يشنِّف الآذان ، فبهر العيون ، وغزا القلوب ، وأسر النفوس وهو يصدح بأجمل الألحان وبأرق الأغاني والأنغام التي تنتشر منها رياح الأصالة الفلسطينية المعطَّرة بزهر البرتقال .
محمد عساف ؛ شاب يافع ، جاء من فلسطين المحتلة ، وهو ثمرة من ثمار البستان الكنعاني الذي هدم الاحتلال الصهيوني أسواره ، واقتلع أشجاره ، وصادر برتقاله ، وطمس معالمه ، وطرد أطياره ، وابتنى لمن تبقى من الفلسطينيين ( باستيلاً ) كبيراً بجُدُر عالية ، تعلوها سياجات واقية ؛ تحجب ضياء الشمس ، وتمنع الهواء النقي من دخول رئتيه .
لقد استطاع عساف في أسابيع قليلة – مالم يستطعه السياسيون الكلمنجيون في سنوات عديدة – أن يحقق لشعبه الفلسطيني الوحدة الوجدانية والوحدة العاطفية والوحدة السياسية بمفهومها الشامل ، الذي يتخطى الأيديولوجيات الحزبية ، فطاف يوقظ الحنين إلى الوطن المبعثر ، ويبعث الأشواق ويُحيي في نفوسنا الحسرات على تلك الحياة الناعمة التي كان يحياها الآباء والأجداد في ديارهم قبل أن تتكالب عليهم قوى الظلم والشر والصهيونية العالمية ، فجمع عساف أشلاء الشوق والحنين المتناثرة والمتباعدة في أرجاء العالم ، وغنَّى لفلسطين وأذكى المشاعر وألهب الأحاسيس ، فأخذ الكل يغني معه " ياطير الطاير يارايح عالديره ، تحميك عيوني وتصونك عين الله ،،، والله يا مسافر شعلانة ها لغيرة ، فلسطين بلادي حلوة يا ما شالله ! . " ، وكأني أرى مآقي العيون قد اكتحلت بالحُب والحنين ؛ تترقرق فيها الدموع ؛ كما تقطر من عينيَّ التي هيَّجها الصوت الطروب ، وهي تهتف دون استئذان : لن ننساكِ يا فلسطين .
عساف ، هذا ( العندليب الأسمر ) الذي أطل علينا من كُوَّة في جدار الحصار ، وخرج من تحت ركام البيوت التي هدَّمتها الدبابات الإسرائيلية ودكَّتها طائرات الـf 16 . عاش معاناة شعبه من تشرد وغربة وحرمان ومن عدوان تلو عدوان ، فرفع صوته يخاطب الإنسان في كل مكان : أن شعب فلسطين موجود وله وجود وله حق في العودة إلى أرض الآباء والجدود . وأن شعب فلسطين لم ولا ولن يموت مادام فيه أزاهير العودة تتفتح ، وما دام فيه أطيار العودة تصدح بلحن الوفاء والخلود لفلسطين العربية الحبيبة . فغناء عساف نضال وكفاح في ميدان الفن ، بل في ميدان الصراع من أجل البقاء ؛ تماماً كنضال القلم في يد الكاتب ، وريشة الرسَّام وقصيدة الشاعر، ونتمنى على البندقية أن تعيد النظر في دورها الكفاحي ، فتعود تتقدم الصفوف ، وتقود كل أشكال وأدوات المقاومة سعياً للخلاص من التشرد واللجوء في ديار الغربة ، وتحقيقاً لمطلب العودة إلى الديار الحبيبة . ويكفينا من عساف أنه أرسل – وما زال يرسل – الرسائل الوطنية إلى الإنسان في كل مكان من أرض المعمورة ، مفادها : نحن شعب لن ننسى ديارنا ولا تراثنا ولا ثقافتنا ولا هويتنا الفلسطينية العربية . ففلسطين باقية ببقائنا ونحن باقون ببقائها ، ومستقرها في بؤرة الذاكرة ، ومركزالوجدان ، وفي لُجة بحر العواطف الحميمية في أعماق قلوبنا .
لقد نجح عساف في إيصال صوت فلسطين إلى العالم ، ونراه يُلقي بنجاحاته دروس الوطنية على شركة التفاوض الفلسطينية ويترنم : لن ننساكِ يا فلسطين كل فلسطين . ويقول للجان المصالحة : ما قصَّرتم فيه على مدى ست سنوات استطعتُ أن أُتمَّه في ست أسابيع ، فتصالح المتخاصمون ، واتحد الفرقاء حين أيقظتُ فيهم الحَمِيَّة الوطنية ، وحققت ما لم تستطع تحقيقه اجتماعات مكة وقطر وصنعاء والقاهرة وتشيلي .
يقول عساف " حين غنيتُ ( يا طير الطاير ) ، كنت أعبِّر بها عن أحلام الشعب الفلسطيني وحنينه للديار السليبة ، وتمسكه بحق العودة ، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف . ويؤكد عساف في تصريح لوكالة الأنباء الفلسطينية " وفا " ، أنه يمثل فلسطين في مسابقة محبوب العرب ( آراب آيدول ) . شكراً لمحمد عساف الذي ألبس الفن ثوب الوطنية ، فألهب حماس الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج ، وأشعل فيها الروح القومية . وشكراً لعساف على إيقاظه السيد الرئيس الفلسطيني من غفلته ، إذ نبهه إلى قطاع غزة أرض الصمود والتصدي ، وذكَّره بأهله المنسيين الصابرين على بلوى الانقسام والانهزام ، فصوَّت سيادته لمحمد عساف على رقم 3. فهيا أيها القُرَّاء الكرام نستلُّ الفرحة المؤقتة من غمدها . ويا أيها المختلفون فينا ، نحن شعب محروم من الابتسام ، فقد كُتب علينا كما كُتب على الذين من قبلنا أن نتجرع الأحزان 65 سنة ، فدعونا نتذوق الفرحة يوماً واحداً ولو كان ذلك خِلسة من وراء ظهر الغيب . أيها الناس لاتنكروا علينا إن نسينا فضحكنا أو أخطأنا فغنينا ، فنحن بشر كسائر البشر؛ نتوق إلى الحرية ونعشق الأرض الطيبة مهما طال الغياب وغاب عن الديار العشاق والأحباب ، وسنفرح ولو أغلقتم قلوبنا وسنضحك ولو كممت أفواهنا وستزغرد فتياتنا ونساؤنا ولو عقلتم الألسنة بالأصفاد ، وسينزل الدَّبيكة إلى الساحات ، تصحبهم أنغام الشبَّابة والأرغول ؛ يهزُّون الأرض من تحت أقدامهم ولو كانت حبيسة القيد . وسيغني جميعنا الدَّلعونا والميجانا ، وهيا نُصَوِّت للرقم 3 ، أو حسب قناعاتكم . وشكراً .*
للكاتب الصحفي/عبدالحليم أبوحجاج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت