أثار مستوى التأيد الشعبي الواسع للفنان الفلسطيني المبدع محمد عساف ابن مخيم خانيونس بقطاع غزة العديد من التساؤلات في أوساط المثقفين والساسة وأصحاب الرأي، في محاولة لقراءة دلالات هذه الظاهرة، وإذا ما كانت تحاكي طبيعة هذا الفنان فحسب، أم أن للأمر امتدادات تفوق خصوصية عساف وقدراته الغير عادية .
قبل كل شيء يجب القول بموضوعية أن السبب الأساس في ضخامة هذا التأيد يعود لطبيعة وقدرة هذا الفنان المبدع، الذي امتاز بعذوبة الصوت والأداء الرائع، وبطلة يرتاح لها الناظر، وضحكة لا تفارق محياه، لتضيف إليه إطلالة مشرقة صافية يستأنس لها القلب، وكان لبساطته وعفويته دور حاسم في استكمال شخصيته المميزة، لتتحد كل هذه الجداول في نهر دعمه الجارف الذي يتسع مجراه يوم اثر يوم .
إن ما أبدعه الفنان عساف كان له دور حاسم في التفاف الجماهير حوله، في البيت والشارع، في مكان العمل والمدرسة والجامعة، في السيارة وداخل الأسواق، في داخل الوطن وخارجه، هذا الالتفاف الذي عكس انحيازا واسعا وكبيرا من قبل أبناء شعبنا للفن وللفرح ولحب الحياة، انحياز مثل صرخة شعبية في وجه كل اللذين يحملون أفكار تحاول حصر شعبنا في زاوية التخلف والانغلاق والانطواء على الذات، بدعوى أن الغناء مخالف لتعاليم الدين!! وما أثار ويثير استياء أبناء شعبنا أن أصحاب هذا النهج هم من أبدعوا في سرقة الحان أغاني وصفوها "بالماجنة"، ليستبدلوا ما طاب لهم من كلمات لتصبح "حلال " ، وبرغم ما حاولوه من تحريض استهدف المس بهذا النموذج المبدع منذ اللحظة الأولى لانطلاقته، إلا أن حملة تحريضهم تكسرت على عتبات التأيد الشعبي الكاسح لهذا الفنان. وإن كان عنوان هذا الدعم تجسد في شخص الفنان عساف، فان الأمر تعدى ذلك لما هو أعمق، فهو يؤكد بصورة جلية تأيد غالبية أبناء شعبنا للفن، ورفضهم للأفكار الظلامية التي تحاول الحط من ذلك، خاصة عندما يحاكي الفن مشاعر الناس وآلامهم، وعندما يداعب أحلامهم بمستقبل أفضل يملؤه الفرح والسعادة والحرية، بدل الموت والإحباط والفقر والضغط النفسي، فن يطلق المشاعر إلى ابعد مدى، ويشعر الناس بوحدة حالهم، ليغنوا بصوت واحد، بعد أن شتتتهم الفئوية، ولتعزف مشاعرهم على وتر واحد، بعد أن غزت نفوسهم آفة الحقد والكراهية والانتقام، وفي النهاية هم يشعرون بأنهم يصنعون النصر بإرادة واحدة عبر تصويت واحد عنوانه فلسطين.
إن ما يقلق أولئك الذين جندوا أنفسهم ومن حولهم لحملة العداء للفنان عساف، أن حملتهم لم تجد صدى لها حتى داخل منازلهم، وبين أفراد أسرهم، هم يدركون مغزى ودلالات ذلك، فعندما يتوحد الشعب خلف ظاهرة تشكل احد عناوين المجتمع الديمقراطي المنفتح، مجتمع العلمانية الذي يرفض أن يُصبغ افراده بلون واحد، مجتمع يحترم الفن والإبداع وإطلاق الحريات، فان ذلك يعني هزيمة لتوجهاتهم، وهو رد عملي من قِبل الشعب على ما يروجوه من أفكار، وما يقومون به من مسلكيات تحت مسميات مختلفة لقمع الشعب ومحاصرة حريته، إنها باختصار معركة تتجلى أبعادها بصراع فكرى مجتمعي نحو ما يريده الشعب، وهي في جولتها هذه حققت نصرا لصالح النمط الاجتماعي الديمقراطي العلماني الذي يحترم الفن والإبداع، ويدافع عن إنسانية الإنسان بكل تفاصيلها . هذا النصر الذي جاء بتلقائية دون ضغط أو تأثير من احد، وهو يعبر عن الإرادة الحرة لشعبنا بعيدا عن الإكراه أو الرشوة التي قد تلجا لها بعض القوى السياسية او المجتمعية أو من قبل السلطة الحاكمة .
على صعيد أخر فان الاندفاع الشعبي لدعم العسافي المبدع، هي دلالة أخرى تكشف عن توق الجماهير للانتصار لنموذج فلسطيني، في ظل ما تعانيه الساحة الفلسطينية من سلسلة إخفاقات ونكسات وماسي على كافة المستويات، فلا تقدم سياسي في الأفق، والتخبط سيد الموقف، وإسرائيل ترسخ على الأرض ما يحقق أهدافها العنصرية التوسعية، وانهزام دائم في جهود المصالحة الوطنية يقابله تعزيز للانقسام وللمصالح الذاتية للانقساميين، وفقر يزاحمه فقر أخر، وإحباط يصاحبه يأس وقرف في العديد من المجالات، ومحاصرة للحريات، لذا فقد مثلت الحالة العسافية ومضة ضوء في نفق مظلم أحاط بشعبنا من كل جانب، جاءت كنموذج فلسطيني يسمو بالكرامة والشموخ الوطني كحالة متميزة وناجحة وسط هذا الركام الذي يزداد يوما بعد يوم .
إن العبرة الأساس التي يمكن استخلاصها، أن شعبنا يقف إلى جانب كل نموذج ينتصر له ولقضاياه ولكرامته الوطنية، يحقق أحلامه حتى ولو كانت صغيرة، نموج يطلق العنان لحرية الإبداع والكلمة، وبالتأكد لنموذج صادق وشفاف، نموذج ظاهره كما باطنه، لا يتلون سياسيا او دينيا ارتباطا بمصالح البعض الضيقة .
خيرا أقول لكل الذين استشاطوا غضبا من النجاح الكاسح للمبدع الفلسطيني عساف، ومن مستوى التأيد الشعبي المهول له برغم ما أطلقوه من فتاوى تحريضية ضده، عليكم قراءة هذه الحالة بكل أبعادها للاستفادة من دلالاتها، لن يفيدكم التعامل مع القشور، أو محاولة الهروب إلى الأمام بإطلاق الأحكام الجاهزة التي تعودتم عليها كلما واجهكم ما لا تحبونه، أو لا يتفق مع توجهاتكم وأفكاركم وربما مع مصالحكم.
غزة – 11/6/2013م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت