بما أن الدائرة هي منحنى مغلق جميع نقاطه على بعد ثابت من نقطة ثابتة تسمى المركز ،وكذلك حياتنا عبارة عن منحنيات مغلقة مركزها البيئة التي تحيط بنا ،وبين دائرتي الأدب ،وسوء الأدب توجد منطقة عازلة أشبه ما تكون بالقنطرة، تفوق تلك المنطقة الفاصلة بين المغرب وموريتانيا ،وتفوق الربع الخالي بين اليمن وسلطنة عمان ، فإما أن تكون تلك المنطقة فجوة سطحية مجوفة ..عميقة.. ضبابية الملامح،مكفهرة ألأغوار ،تعري كل الذين يسقطون بها ،فتنكشف خطاياهم ،وتتراءى أفسدة أخلاقهم ، كما تسقط الأقنعة عن وجوه الوشاية والأباطيل ،وإما أن تكون تلك المنطقة جبل عالٍ كجبل الإفرست الواقع على سلسلة جبال الهيمالايا ،وهو أعلى جبل على وجه الكرة الأرضية ،وهنا لا يستقر فوق قمة تلك المنطقة سوى ذوي القلوب الرحيمة الصافية ..صفاء ينابيع المياه ،وذوي الأخلاق الراقية،والسلوكيات المهذبة ،قد يكون أولئك من بسطاء الناس ،وعامتهم فالأمر ليس مقصورا على طبقة التنوير الفكري ،أو المثقفين أو كبار القوم أصحاب الجاه والسيادة ،والفخامة ،إذا أردنا أن نعرف أخلاقيات البشر ،في أي منطقة يسكنون منطقة الأدب أم سوء الأدب فلنعرض عليهم أفكار تتعارض مع عقلياتهم ،وأيديولوجياتهم ،بطريقة سرية مجهولة الهوية والمصدر، ولِنرى كيف تكون ردود أفعالهم فأخلاق الرجال لا تتضح إلا في المحن ، والشدائد ،وعند الفقر ،فهناك من تكون أخلاقة راسخة ثابتة كمخاطيف السفن حين ترسو على الشواطئ فلا تزحزحها الرياح من دائرة أمانها، ولا الأعاصير،وهناك من تتكشف أخلاقهم القبيحة على أقرب منعطف ،فيتفوهون بحماقات ،تعبر عن حناياهم أمثال، أولئك يكونون كالذين لايرون إلا الحمار في المزرعة ،ويتجاهلون ما بها من خضرة ،وجمال ..والذين هم كذلك لا يميزون بين الخصومة السياسية وبين الخصومة الشخصية ،والذين لا يميزون بين مقالات الكتاب التي تعبر عن وجهه نظرهم ،وبين شخصياتهم فيغيرون عليهم بوابل من الشتائم ،والإهانات ،كطائرات أل f-16 المحملة بأطنان القنابل ،وما أكثر القراء الذين لا يجيدون حتى قراءة العناوين إن حالهم اليوم هو أشبه ما يكون بالمواقف المضحكة التي تعرض لها الأديب " توفيق الحكيم " عندما تحدث انه يوما مر بائع كتب متجول ينادي على المقاهي بكتاب " حمار الحكيم " فاستوقفه أحد المشترين وطلب نسخة وهو يقول :بكم كتاب " الحكيم الحمار "،وقال له زبون آخر : " حمار الحكيم " ؟! هل "توفيق الحكيم " غير اسمه ؟!!، وهذا الموقف على الفور ذكرني عندما كنت باليمن ،فترة إجازة الكلية حيث دخل المعارف البسطاء غرفتي ووجد كتاب على منضدتي فقرأ عنوانه بعفوية قائلا : الله كتاب يبدو أنه جميل من اسمه، لم أتطلع إليه، وقتها فقلت له أي كتاب ؟ فرد بسرعة كتاب "ُصنع الله إبراهيم "قرأها بصورة مقطعة وكأنها جملة مكونة من فعل ،وفاعل، ومفعول وذلك حيث قرأ بفتح الصاد "صَنع "وليس بضمها فحول دون أن يدري الاسم المركب إلى فعل ..حقيقة لم أتمالك نفسي من الضحك فقلت له ياعزيزي: هذا مؤلف الكتاب وهواسمه صُنع الله إبراهيم ،ثم أن الكتاب اسمه"اللجنة" التي نشرت عام 1981 وهو من أشهر الكتب الروائية لهذا الأديب والروائي المثير دائما للجدل بكتاباته ،المهم أننا ضحكنا سويا !!
وهذا الأمر له صور عديدة أي القراءات الخاطئة مخالفة البراءة ،والتلقائية فمنها ما هو ممزوج بالعنف ، فلم يسلم منه العظماء أمثال "بابلو نيرودا" ،والذي أحرق الخائنون بيته ..ومكتبه وأشعاره ،وأهدروا دمه ،وهو يدافع عن الفكرة والإنسان ..،و"والت ويتمان" الذي فُصل بمرسوم وزاري وألقيت قصائده –أوراق العشب – في النار وآخرون غيرهم وإن ذلك ليذكرني بموقف غريب في هذا المضمار حدث معي شخصيا عندما كنت أعيش في مصر بمرحلة الصبا وبداية اهتمامي بالثقافة، وحب المعرفة، والإطلاع ..حيث اشتريت في أحد الأيام كتاب ل"فلاديمير لينين" بعنوان" الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" ، وذلك من سوق الأزبكية بحي العتبة ،وهو من أشهر أسواق الكتب في القاهرة،ولما وضعت الكتاب على سطح مكتبتي المتواضعة ،وخرجت لأقضي بعض المصالح الخاصة بالبيت ،ولما عدت كانت المفاجأة التي صعقتني ،وهي أني لم أجد الكتاب ،فتشت عنه ولكن بلا جدوى وبعد قليل شممت رائحة دخان ممزوجة بسطور ورقية ،فصعدت إلى سطح البيت حيث كانت تجلس أمي أمام فرن الطينة لتطهي أرغفة الخبز ،فرأيته نعم رأيته كانت آخر نظرة وقعت عليها عيناي وهي الرأسمالية بعدما احترقت ملامح لينين وتشوهت ولما سألت من أتى لكِ بالكتاب يا أمي ؟! قالت بفطرية وتلقائية ..أن إخوانك همسوا بأذني أن مؤلف الكتاب شيوعي ..فقلت النار أولى به ابتسمت حينها، وغادرت المكان عازما في فرارة نفسي على شراء نفس الكتاب لكني قررت أن أدسه في خبايا الكتب حتى لا يحترق لينين مرة أخرى ..!!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت