عقدت اللجنة الوطنيّة لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) مؤتمرها الرابع، بحضور أكثر من 500 مشارك؛ ما يدل على حجم الاهتمام بالدور الذي تقوم به هذه اللجنة، التي تعتبر بحق أحد العلامات المهمة على استمرار الحيويّة الوطنيّة وتمسك الشعب الفلسطيني بحقوقه بالرغم من حالة الهبوط العام التي تشهدها القضيّة الفلسطينيّة بصورة لافتة منذ توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم وحتى الآن.
وعرضت اللجنة أبرز إنجازات الحركة العالميّة لمقاطعة إسرائيل في الفترة ما بين 2012 – 2013، ولا أستطيع في هذا المقال أن أستعرض هذه الإنجازات العديدة التي يمكن الاطلاع عليها ومجمل نشاط اللجنة عبر موقع الحملة الإلكتروني (www.BDSmovement.net).
ما أحاول الإشارة إليه في هذا السياق هو أن حركة المقاطعة، وهي أداة وإستراتيجيّة نضاليّة وتضامنيّة رئيسيّة لعزل إسرائيل، في تصاعد ملحوظ في الخارج وارتباك ومراوحة في داخل الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، وهذا أمر يستدعي التوقف عنده؛ لدراسة أسبابه ووضع العلاج الناجع الكفيل بتصاعد المقاطعة ومناهضة التطبيع المنفلت مؤخرًا من عقاله، حيث نشهد اتساع موجة التطبيع الفلسطيني على كل المستويات الرسميّة وغير الرسميّة، وبما تشمل قطاعات (الشباب، والرياضة، والسياحة، ورجال الأعمال، وشركات التقنية، والزراعة) بالترافق مع جولات جون كيري، الذي استهل عهده كوزير خارجيّة للولايات المتحدة الأميركيّة بدعوة العرب إلى حث الفلسطينيين على قبول استئناف المفاوضات من دون شروط (أي وفقًا للشروط الإسرائيليّة)، وعلى قبول مبدأ تبادل الأراضي، والتطبيع مع إسرائيل فورًا.
وتأتي جهود كيري في سياق "طمأنة" إسرائيل وتشجيعها على تحقيق السلام، لأنها أصبحت بعد التغييرات العربيّة "تخاف" على وجودها ومستقبلها في المنطقة، وذلك بالرغم من أن ثمار هذه التغييرات سقطت بردًا وسلامًا في حضن إسرائيل، حتى الآن على الأقل، كما يتضح ذلك من التزام الحكام الجدد في المنطقة بالمعاهدات المبرمة مع إسرائيل، وسعيهم لاسترضاء الولايات المتحدة (وبالتالي إسرائيل) بأي ثمن، ومن انشغال الدول العربيّة بما يجري فيها، أو ما يمكن أن يجري فيها وسط صعود خطير للفتن الداخليّة والمؤامرات الخارجيّة، بحيث تتفتت البلدان وتتصارع داخلها ومع بعضها، وأصبح الصراع ليس مع إسرائيل ومن يدعمها وما تمثله من خطر على المنطقة كونها كيانًا استعماريًا استيطانيًا عنصريًا إجلائيًا وامتدادًا لمشروع إمبريالي يستهدف المنطقة برمتها، بل صراع سني شيعي، إسلامي مسيحي، علماني ديني، عربي فارسي، بين إسلام معتدل وإسلام متطرف؛ الأمر الذي همش القضيّة الفلسطينيّة بصورة لم يسبق لها مثيل، ويهدد بانطلاق موجة أخرى أكبر من سابقاتها في محاولة جديدة لتصفيتها بالجملة أو بالمفرق.
المؤتمر الرابع للجنة المقاطعة تعبوي ومهم، وأجاب عن أسئلة، لكنه طرح من القضايا والأسئلة ما هو بحاجة للمزيد للإجابة عنها، ما يوجب عقد ورشات ومؤتمرات وكتابة دراسات تهدف إلى الإجابة عن تلك الأسئلة.
طُرِحَ في المؤتمر تعريف مثير للتطبيع يدل على تطور هذا التعريف، بحيث يلحظ الظروف الخاصة لكل تجمع فلسطيني، فمفهوم التطبيع داخل فلسطين 1948 يختلف إلى هذا الحد أو ذاك عنه في الضفة الغربيّة، كما يختلف في الشتات، بحيث يجب على كل تجمع فلسطيني أو متضامن مع القضيّة الفلسطينيّة أن يلحظ الظروف الخاصة بكل منطقة، ما يدل على أنّ الأمر بحاجة إلى اهتمام أكبر ونقاش أوسع.
ومن المسائل التي أثارت نقاشا في المؤتمر جدوى التمييز الوارد في تعريف التطبيع بين الحاصل من الزائرين لفلسطين المحتلة على تصريح زيارة إسرائيلي من خلال السلطة أو فيزا من خلال إسرائيل مباشرة، فما دام المصدر واحدًا يجب التعامل مع الحالتين بشكل مشترك.
كما توقف المؤتمر أمام نماذج من المقاطعة لشركات تتعاون مع الاحتلال، وتنظيم أسابيع لمكافحة الأبرتهايد تستحق التعميم، وأمام الموقف من الوفود الأجنبيّة التي تأتي أساسًا لزيارة إسرائيل، وتعرج للقاء الفلسطينيين للتغطية على هدفها الأصلي من الزيارة، حيث برزت هناك اجتهادات حول مقاطعة أو عدم مقاطعة مثل هذه الوفود، مع إقرار الجميع بضرورة المشاركة في المؤتمرات الدوليّة بالرغم من مشاركة إسرائيل فيها، ولكن من دون تعاون ثنائي فيها أو ينتج عنها.
لم يتوقف المؤتمر بشكل كافٍ أمام الأسباب التي أدت إلى اتساع التطبيع في الآونة الأخيرة، وكيف يمكن إحباطها على أساس التركيز على ضرر التطبيع أكثر من التركيز على الأشخاص ووضع القوائم السوداء، لأن الهدف دفعهم إلى التراجع والعودة إلى الصف الوطني، وأن التطبيع مع العدو، ونحن في ذروة الصراع معه، وفي ظل مواصلته لتطبيق مخططاته العدوانيّة والعنصريّة بكثافة غير مسبوقة؛ ليس وجهة نظر ولا ناجم عن هواجس نفسيّة ولا نقص المعلومات والعلاقات العامة و"التواصل" مع المجتمع الإسرائيلي كما يحلو للبعض أن يصوره، وإنما دعوة لتقبل الوضع القائم والتعايش معه، والعمل تحت سقف تحسين شروط الاحتلال لا أكثر، وعدم التمييز بين المستعمِر والمستعمَر؛ ما يعني عمليًّا مساعدة للعدو وتمكينه من اختراق الجبهة الداخليّة الفلسطينيّة.
كما لم يتوقف المؤتمر بشكل كافٍ أمام الموقف من الدعوات الرسميّة الفلسطينيّة إلى زيارة الأراضي الفلسطينيّة، وتحديدًا القدس والأقصى.
ضيق الوزير من الانتقاد
على هامش المؤتمر، وفي الجلسة المخصصة لمساءلة المنظمة والحكومة ولجنة المقاطعة، حدث إشكال بين وزير الاقتصاد د. جواد ناجي وبعض المشاركين؛ يدل على مدى الهوة ما بين السلطة والشعب، وعلى ضيق الوزير ممثل السلطة من الانتقاد وحريّة الرأي.
لقد أثار أكثر من مشارك مسألة وقف الحملة ضد المستوطنات التي بادرت إليها الحكومة في العام 2010، والدليل أن أسواق الضفة تعجّ ببضائع المستوطنات من دون حسيب أو رقيب، وهذا ما أكده أيضا تيسير خالد، عضو اللجنة التنفيذيّة للمنظمة، إلا أن الوزير رفض هذا الحديث جملة وتفصيلًا، واعتبر أن الحملة لا تزال قائمة، وأن الرقابة فعّالة، وأن هناك فلسطينيين يقبعون في السجون لترويجهم بضائع المستوطنات، كما رفض الحديث عن وجود استثمارات مشتركة فلسطينيّة – إسرائيليّة، وعندما وجه بأمثلة مثل تعاون بال تريد مع مركز بيريز، قال إنها مشاريع مشتركة وليست استثمارات، وأضاف "هذا ما يقوم به القطاع الخاص والمجتمع المدني ولا شأن للحكومة به!".
كما لم يتحمل الوزير الانتقاد للمنظمة ورئيسها، من خلال القول عنها إنها مشلولة وأن أمين سرها من أبرز رموز التطبيع، وأن السلطة ورئيسها يقولون علنًا بأنهم يمارسون التطبيع ويجسدون التنسيق الأمني بشكل مستمر.
يستطيع الوزير أن يعبر عن رأيه وهو فعل ورفض وصف الحكومة الجديدة بأنها حكومة رام الله وجامعة النجاح، وأن يدافع عن المنظمة والسلطة، لكن ليس من حقه الإساءة إلى من انتقده، ولا اعتبار أن هذا الانتقاد خروج عن المشروع الوطني، كما جاء في البيان الصادر عن وزارة الاقتصاد، فليس من حق أحد، خصوصًا سلطة أوسلو، أن تحتكر المشروع الوطني، وليس من حق أحد أن يرسل بلطجيّة لضرب الناشط الشبابي نزار بنات فور خروجه من المؤتمر. فعلى حكومة الحمد الله أن تنجح في الاختبار الأول الذي تعرضت له في القيام بواجبها بمحاسبة من نفذ الاعتداء ومن أصدر الأوامر. إن إساءة الوزير وعدم الاعتذار عنها أدت إلى المطالبة بخروجه من المؤتمر وإلى إساءات بحقه، وهذا غير مقبول.
لا شك في أن الغضب من تشكيلة الحكومة الفلسطينيّة الجديدة كان له أثره فيما شهده المؤتمر، ولكن في هذه المناسبة أقول: إنه يجب الحذر من تصوير تشكيل الحكومات على هذا الشكل بأنه الحل أو المشكلة، بعيدًا عن السياق الذي تعيشه السلطة المرتهنة للمساعدات الخارجيّة التي تتحكم بها، والقيود الغليظة التي تقيدها، فالسلطة تحت الاحتلال مقيدة بالتزامات سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة، بحيث لا تستطيع أن تعمل إلا في نطاق إدارة الحياة تحت الاحتلال وتحسين شروطها، فالسيد والآمر الناهي هو الاحتلال، ومن أجل التخلص منه يجب أن يتوحد الفلسطينيون لا أن يتوهوا في صراعات حول المكاسب والوظائف والحصص وزيادة التمثيل لنابلس أو الخليل، أو جامعة بيرزيت أو جامعة النجاح، وهذا يتطلب بلورة إستراتيجيّة جديدة قادرة على إنهاء الاحتلال وتخليص السلطة من قيودها، من خلال إعادة النظر في شكلها ووظائفها والتزاماتها، وعندها يكون هناك برنامج وطني يسعى الجميع لتجسيده، ومن دون ذلك نغدوا عوائل وعشائر ومناطق تسعى كل واحدة منها لأخذ حصتها أو ما تعتقد أنها حصتها، أما الوطن والمصلحة الوطنيّة فعليهما السلام.
الثلاثاء, 11 حزيران (يونيو), 2013
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت