في بداية الأحداث الأخيرة في دمشق كان لمنطقة نهر عيشة النصيب الأكبر من الأحداث المؤلمة، حيث كانت من أشرس ميادين القتال .
نهر عيشة هي بوابة دمشق الجنوبية وهي بداية طريق اوتستراد درعا، طريق الموت كما صارت تسمى خلال الأحداث.
أذكر في أول مرة خرجت فيها من صحنايا، ومررت من نهر عيشة بعد أن هدأت المعارك التي استمرت لعدة أيام ـ اضطرتني وغيري ممن عليهم المرور من هناك ، للبقاء في منازلهم؛ دمعتي لم تجف طوال الوقت, لم يكن ذلك الطريق الذي أعود منه عند الساعة الحادية عشر ليلا وحدي، دون أن يتعرض أحد لي بأذى. كانت البيوت مهجورة ومنقوشة بزخات الرصاص وفتحات القذائف, طوابق بأكملها التصقت بالطابق السفلي، حاولت البحث عن الغسيل المنشور على شرفات بعض المنازل على طول الطريق والذي كان يزعج العين سابقا، لم أجد قطعة قماش تروي روحي .
نهر عيشة المنطقة الشعبية التي تعج بالسكان البسطاء أصبحت قبورا مهجورة.. لم يخطر في بالي، في ذلك الوقت غير أنه جف النهر وإلى الأبد.. لكن..
بعد فترة أسبوع عاودت المرور من هناك و إذا بي أرى مشهدا أسعد نهاري كله؛ حائط بيت لأحد المنكوبين منهارٌ بالكامل خلال المعركة فأصبح بيته عبارة عن شرفة أكثر منه بيت، وإذ به جالس على كرسي مطل على الشارع العام، واضعا "أركيلته"، وكالسلطان في قصره، يطل من خلف الموت برجل ملتفة على رجل من تلك الغرفة الخرافية .
مرت الأيام ومع تصاعد الأحداث في دمشق أصبح حاجز نهر عيشة هو الحاجز الأكثر تعبا، أطفال ونساء وشباب ورجال ومسنين في الباصات والسيارات ينتظرون بالساعات ليتجاوزا الحاجز المنهك أكثر منهم من هذا الوجع الذي طال .
لكن ما ينسيك كل هذا الإرهاق، الأطفال الذين يتجولون بين السيارات ليبيعوك الخبز
والبسكويت و"المعروك"، والرجل الفاضل الذي يمر بين السيارات المنتظرة ليسقيك قهوة الصباح. كل ذلك في قسوة البرد, لاشيء ينقصك في تلك المنطقة إذا رضيت الانتظار، والتفت حولك لترى من يشاطرك تلك الرحلة التي يقضيها كل في سبيل الاستمرار
و الوصول إلى وسط العاصمة و لقمة العيش .
تلك المنطقة ليست للشحاذين الذين استغلوا الأزمة أسوأ استغلالا في كل شوارع دمشق ليشحذوا باسم من خرجوا من بيوتهم قهرا, تلك المنطقة لأسياد فقراء.. هؤلاء الذين اختاروا الحياة، هم لا يرجونك صدقة هم يبيعون ويأتون بقوتهم بعرق جبينهم، هم فقط من جعلوا من نهر عيشة نهرا جاريا لكل العطاش .
البائعون يزدادون في نهر عيشة و بدأ يتسع مجال أعمالهم فهناك شاب في مقتبل العمر يقدم لك المناديل لتمسح عرقك من حر الشمس ومنهم شاب آخر يبيعك الدخان إن أردت أن تشاركك السيجارة انتظارك وأن تحترق معك أو تحترق معها حزنا على دمشق، وهناك البعض ممن يبيعك الماء قبل أن يجف حلقك عطشا بعد أن حل علينا الصيف بقسوته الحارة وهاهي الفصول تتغير والحرب كما هي بكل بشاعتها لا تتجمل..
أنا شخصيا كلما ذهبت إلى عملي، اعتدت أن أبحث عن أحد الأخوين اللذين يبيعان البسكويت المغطس بالشوكولاة، صغيرا العمر لا يتجاوز أكبرهما الإثنا عشر عاما، أحدهم يجادلني كلما اشتريت منه وتركت له زيادة عن السعر، والآخر يفاوضني لكي يبيع لي كميات أكبر بثمن أرخص، مثله مثل مدير شركة في مملكته التجارية.. أعشق وجهما عند الصباح، وأعشق لهجتهما الإدلبية.
في دمشق لا مكان للتقسيم ولا التطرف، هكذا يخبرني وجه بائعة الخبز التي لم تتجاوز العشر سنوات، وهي ذات حجاب ولهجة شامية، حيث يشتري من عندها جارنا جورج كلما مر من هناك، كأنه هو أيضا يبحث عن من يضيء له صباحه، حاله حال المنتظرين الكثر..
أطفال نهر عيشة أو من نزحوا اليها اختارت لهم الحياة أن يلهوا بين السيارات ببضاعتهم المتنقلة بدلا من أماكنهم الطبيعية للهو واللعب, كأنهم يقولون للحياة، يا من اختارتنا بؤساء اليوم في دمشق نحن اخترنا أن نعيشك مع سبق الاصرار والترصد، ولتكن بذلك تهمتنا هذه، أقدس من عيون كل الطيبين، ولتكن الحياة ما أرادت، فما زالت الشمس تشرق مثل وجوهنا كل صباح ..
بقلم / هلا تيسير أبوبكر
مخيم اليرموك
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت