إنها ذكرى انتصارنا علينا حين انهزمنا أمام جوعنا على السلطة لنعلن رفع راية استسلامنا السوداء هذه المرة، استسلامنا لأبشع ما فينا من غرائز حين كان الرصاص أداة الحوار بين الأخوة الأعداء وحين تحولت أسطح العمارات إلى ساحات قتل وسحل وقنص في أسوأ عملية إطاحة لكرامة وطنية كانت تنغرس فينا في الطريق نحو الوطن المفروش بالآلام لتهزأ مما كانت تصدح به الفنانة الثورية أميمة خليل " أهلوك لا سور من الكذب .. أهلوك لا قناصة الرتب " فنكتشف أننا قلاع من الكذب وقناصة للرتب حد الموت في سبيلها.
ست سنوات مرت على ذلك الجرح المفتوح في الذاكرة والذي أصابها بانحناءة مزمنة في عمودها الفقري لكن يبدو أن الفلسطينيين لم يدركوا حجم المأساة بعد، فلا زالوا منشغلين بتسميتها أهي انقسام؟ أم انقلاب؟ أم حسم؟ إنهم يمتلكون من ترف اللغة والوقت وفائض الدم ما يكفي لهذا النقاش إنها مصيبة يا سادة يبشركم الكاتب الإسرائيلي أليكس فيشمان أول أمس على صحيفة يديعوت أحرونوت بأنه لا يوجد حل للانقسام بين حركة المقاومة الإسلامية حماس والسلطة الفلسطينية.
إنها الكارثة التي حملت كل المعاني، وكل المعاني تدل عليها فقد كانت هناك أزمة عجزت أطراف الانقسام عن حلها بالحوار فتم حسمها بانقلاب لتنتج انقساما، هكذا هي الأمور، بكل بساطة كل من المصطلحات تدل على الأخرى وأنني أفضل دوما استعمال كلمة انقلاب حتى تلسع مع كل مقال من فكر يوما أو يفكر باستعمال السلاح كوسيلة لحسم الخلافات الفلسطينية وهي كثيرة .
قبل ثلاث سنوات سألت الصحيفة الإسرائيلية عميرة هاس والتي تكتب في صحيفة هآرتس عما لديها من معلومات عن اليد الإسرائيلية الخفية في هذا الانقلاب وفي تلك التراجيديا الفلسطينية، كنت أبحث عن الحبل السري الذي يربط بين مأساتنا وإسرائيل متصورا أن كل الأزمة لدينا كانت تدار من "الكرياة" وهي مقر وزارة الدفاع في تل أبيب ولم يغادرني هذا الاعتقاد حتى اللحظة باحثا عن تأكيده بالمعلومات لأنه مهما بلغ الفلسطينيون من عجز في إدارة حواراتهم لا يمكن أن يصل الأمر إلى هذا المستوى، أجابتني وهي التي تبدي في مقالاتها تعاطفا مع الفلسطينيين قائلة "لا معلومات لدي عما تبحث عنه ولكن ما أعرفه أن ما حدث عندكم كان هدية السماء بالنسبة لإسرائيل " وكررتها هدية السماء.
لم نتوقف أمام حساب الضمير ولم نسأل أنفسنا ما الذي فعلناه بأنفسنا حين حملنا البنادق لنمثل بجثة مشروعنا الوطني في الوقت الذي كنا نمده بوحدات الدم ليقف على قدميه، كيف يمكن لشعب بكل هذه التضحيات أن يطلق النار على قدميه ليصاب بالكساح الدائم؟ إنها شهوة السلطة التي كانت ولا زالت قصة الماضي والحاضر في الثقافة العربية، فنحن من قتل الخلفاء من أجل السلطة؟ ونحن من شق العالم الإسلامي ما بين شيعة وسنة في لعبة الصراع عليها ولا زالت النار متقدة، ونحن سادة الانقلابات في العالم وعندنا انقلب الابن على أبيه من أجلها وقتل الأخ أخاه.
إنها السلطة التي ألقيت أسفل جبل أُحد فنزلنا مهرولين لنقتتل على بقاياها فلا فزنا بالسلطة ولا كسبنا الحرب التي صعدنا من أجلها وتهنا في الطريق نحو العودة إلى رأس الجبل، لأن وزن ما حملناه من عبء التزامات الحكومتين أكبر من العودة، فتملكتنا حالة من الضياع بين الطرق والوسائل، وكان هناك أحد ما يجلس مخرجا لسانه لنا ليقول "رسبتم بجدارة في امتحان الإدارة" إدارة النظام السياسي وإدارة الحوار والخلاف والاختلاف.
حتى اللحظة لم يستوقفنا ما حدث، فما تشي به حوارات المصالحة من ابتسامات تعكس حجم الانفصال عن الواقع المتجهم حد البكاء على أطلال الوحدة والانشغال اليومي بمقارعة المحتل، فقد أصبح هذا جزءاً من الماضي في ظل هدنة هناك وتهدئة "وهي الاسم الحركي للهدنة" هنا في غزة، وفي ظل التسابق على تبريد أهم جبهتين كانتا قبل الانقسام -الانقلاب مفتوحتين على إسرائيل كما جهنم، حقا إنها هدية السماء.
علينا إجراء جردة حساب للسنوات الست الماضية على مستوى التعليم والخدمات والصحة والاقتصاد والأهم حجم الكراهية بين أبناء الشعب الواحد والتي تحتاج إلى سنوات من العلاج، فعلاج الروح وانكسارها أصعب من علاج الجسد، كم من السجناء اعتقلنا بسبب الانقسام الذي وفر فرصة لتجاوز كل الأعراف والقوانين لحقوق الإنسان ونحن في الطريق نحو تكريس الانشطار في الوطن اكتشفنا أننا نعيد استنساخ أسوأ النظم وأكثر أجهزة الأمن بؤسا في العالم العربي، فقد تحولت العلاقة بين الأخوة الألداء إلى علاقة تربصية كل ٌيخشى من الآخر أن يخطف سلطته مخولا أجهزة أمنه ارتكاب ما يلزم للحفاظ عليها، فتجربة التاريخ قالت أن المقاومة عندما تصل للسلطة يتحول سلاحها إلى حارس للسلطة، هذا ما حصل مع فتح قبل عقدين والآن يتكرر مع حماس.
كيف يمكن أن نهز الفصائل حد إفاقة الضمير؟ أن نلسعها بصعقة كهربائية ليعود الدم يجري في عروقها، أن تبني لنا نظاما سياسيا يشكل نموذجا لكل مواطن، أن تتوحد أو نكتب في لحظة غضب وتمرد على الواقع أن تتبدد، الأمل أن تتوحد أن تنتصر إرادتها على إرادة إسرائيل، فنحن الشعب مستعدون للتنازل عن السلطة، ولأن الشعب هو سيد السلطات وهو أبوها وأمها فليس أمامنا إلا أن نقول كما قالت تلك المرأة أم المولود حين ادعت أخرى أمومته أمام القاضي الذي حكم بقطعه إلى نصفين لتأخذ كل منهما نصف فتنازلت عنه، أرجوكم يا سادة نحن الشعب نتنازل عن سلطتنا لكم، خذوها كلها ولكن لا تقطعوها ولا تقسموها فستموت ويموت معها مشروعنا، خذوها لأننا أيضا أكثر عجزا منكم على استردادها لأن الساحات لم تغرق بالشعب حتى الآن.
نقلا عن/ الايام
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت