عساف جاء من قاموس آخر

بقلم: مصطفى إبراهيم


كغيري من الفلسطينيين لم اتوقع يوماً ان أجد نفسي متحمساً لمتابعة برنامج استهلاكي من برامج فن البزنس، كبرنامج "عرب آيدل"، لكني وجدت نفسي كغالبية من الفلسطينيين اتابع البرنامج لدعم محمد عساف ابن مخيم خان يونس للاجئين الفلسطينيين، للفوز بلقب محبوب العرب، فنحن تعودنا على التلبس بعقلية المؤامرة، وحالة الوطن والحداد والشهداء والأسرى، وسماع الاغاني الوطنية والأناشيد الحماسية.
وكل لحظة نعيش فكرة ان القضية تمر بمنعطفاً خطيراً، و مرحلة تاريخية حرجة وحساسة، ومتى لم تمر القضية بحالة تاريخية حرجة؟
الاحتلال مستمر في جرائمه و انقسام حاد ومقيت والتنافس على فرض رؤى ايديولوجية وسياسية، القهر والظلم وحالة ثأرية وانتقامية وانتهاكات حقوق الانسان والاعتداء على الحريات مستمرة، والأوضاع الاقتصادية الصعبة والمتدهورة، و البطالة والفقر والتفسخ في النسيج المجتمعي.
وجاءت مشاركة محمد عساف مفاجئة، ومن قاموس اخر مختلف عن القاموس الذي نحياه ونعيشه منذ زمن بعيد، وكسر التابو، من مغني يغني الاغاني الوطنية والأناشيد التي تمجد الوطن والشهداء، في المناسبات الوطنية و الخاصة، ليغني الطرب والفن الممنوع اشهاره والاعتراف به، إلا في الافراح والحارات والصالات المغلقة، فكيف يشهره علناً أمام الاشقاء العرب؟ فنحن نغني ظريف الطول والميجانا والعتابا، و الوطن والحزن والحداد وتمجيد الشهداء.
اربك كثر وأحرج اخرين، تسابق منهم في احتضانه والركوض خلفه، وآخر نفي التهمة عنه بمطاردته ومنعه من الغناء.
وكانت مشاركة عساف علنا في "عرب آيدل" امام ملايين العرب في مرحلة ملتبسة كالعادة، احدثت جدلاً سياسياً ووطنياً واسعاً، فالخروج من عدوان على غزة وعشرات الشهداء والجرحى، والبيوت المدمرة، وإضراب الاسرى موحدين ومنفردين، وسقوط شهداء منهم في التعذيب، وبسبب المرض وإهمال سلطات الاحتلال، وتقاعس القيادة وغياب التضامن الشعبي الموحد معهم على الارض.
انقسام مستمر وحالة جدل دائمة واختلاف على كل شيئ، ودائما الضباب في حالتنا كثيف وبوصلتنا مضطربة، و مراحلنا الانتقالية الوهمية يشوبها القلق والخوف والتيه، فهو وضعنا في مصاف الدول رأس برأس، بعد ان فشلت القيادة في استثمار الاعتراف الاممي بنا كدولة غير عضو.
فالانهيارات لدينا مستمرة وصحتنا غير متعافية وغير قادرين على تطبيب انفسنا، ومن يتدخل لتطبيبنا هم سبب علتنا، كما نحن ايضا سبباً رئيساً من اسباب العلة المزمنة في جسدنا المنهك، وقيادتنا ليس لديها الأدوية الشافية لكل أمراضنا.
عساف ساعد في تطبيب مؤقت لغالبية من الفلسطينيين، لكن تطبيبه يشوبه القلق وعدم النجاح وعقلية المؤامرة تسيطر علينا من تجاربنا السابقة والقائمة، والاستثمار والابتزاز والسرقة من بعض منا قائم، والخوف من قدرته على توحيد الناس.
عساف يغني الطرب لإسعاد الناس، و غناؤه لا ينهي الانقسام، ولم يوحد المنقسمين، لكنه استطاع ان يجمع غالبية من الفلسطينيين في كل أرجاء الدنيا خلال ثلاثة اشهر في مساءات حزينة ومهمومة حولها إلى لحظات حرية، و جميلة وأشعلها فرح وسعادة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت