أحداث ومناسبات هامة في شهر شعبان
يدور بنا الزمان عاماً بعد عام ، يأتي عام وينقضي آخر ، وها قد أظلتنا أيام شهر شعبان ، هذا الشهر الذي يلي شهر الإسراء والمعراج ، ويسبق شهر الصيام والقيام وصلة الأرحام ، نفحةٌ مباركة من نفحات الله وفرصة عظيمة للتقرب إليه .
سمي شعبان من التشعُّب ، لأن العرب كانوا يتشعَّبون فيه لطلب الماء ، فهو شهرٌ تشعَّبت فيه أبواب الخير وتنوَّعت مجالاته وتعددت فيه القُرُبات إلى الله تعالى ، جعله الله تعالى موسماً من مواسم الخير التي اختصها ببعض العباداتِ ووصلها ببعضها على مدار الأوقاتِ ، ليدومَ اتصال العبد بربه ، فينيرَ بالإيمان قلبه ، ويحرسَه بعنايته ويشملَه برعايته .
وأعظم العبادات في شعبان الصيام ، وأفضل الصيام ما كان قريباً من رمضان ، فمنزلته منه بمنزلة السنن الرواتب من الفرائض قبلها وبعدها ؛ حيث إنها تكملة لنقص الفرائض ، وهي أفضل من التطوع المطلق بالصلاة ، فصيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بَعُد عنه ، برهان ذلك ما ورد أنَّ { أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه كان شعبان ثم يصله برمضان } رواه أبو داود ، لذا كان يكثر الصيام فيه ، قالت عائشة رضي الله عنها { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم ، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان " رواه البخاري .
في الحديث إشارةٌ تحضُّنا على حسن التأسِّي ، ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل شعبان وعليه بقية من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان ، حتى يستكمل نوافله بالصوم قبل دخول رمضان ، يضاف إلى ذلك أن شعبان شهر توبة ومغفرة ، ومِنْ تكريم الله له أن الأعمال تُرفَعُ فيه إلى الله عز وجل ، قال أسامة رضي الله عنه : يا رسول الله لم أرك تصوم من شهرٍ من الشهور ما تصوم من شعبان ، فقال { ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه بين رجب ورمضان ، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم } رواه النسائي .
يدل الحديث على أن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم ، وعلى فضيلة التطوع بالعبادة والتقرب إلى الله تعالى عند استيلاء الغفلة على الناس ، ففي قيام الليل مثلاً يتوجه المؤمن إلى ربه بالقيام والذكر والدعاء والناس نيام ، فالعمل الصالح في أوقات الغفلة أشق على النفوس لانفرادها بالطاعة ، ولصدق إقبالها على ربها سبحانه ، ولأنها في هذه الساعات أبعد ما تكون عن الرياء ، فالصوم أكثر العبادات بعداً عن الرياء لأنه سر بين العبد وربه فلا اطِّلاع لأحد عليه إلا الله ، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي { كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به } رواه البخاري .
وشهر شعبان مقدمة لرمضان ، فيستحب فيه التعبد بما يستحب في رمضان بالصيام وقراءة القرآن والدعاء والاستغفار وصلة الأرحام ، ليحصل التأهب والاستعداد لاستقبال رمضان ، والتدرُّب على طاعة الرحمن ، والتخفيف من المشقة عند البدء بالصيام ، فيكون الصائم قد روَّض نفسه على الصبر وقوة الإرادة ، ووطَّنها عليه واعتاده ، ووجد له في روحه وقلبه لذة وحلاوة ، سئل صلى الله عليه وسلم : أي الصوم أفضل بعد رمضان فقال { شعبان لتعظيم رمضان } رواه الترمذي .
ولكن الأفضل ترك الصيام في آخر شهر شعبان ، لقوله صلى الله عليه وسلم { لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلاَّ من كان يصوم صوماً فليصمه } رواه البخاري . ولقوله صلى الله عليه وسلم { إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا } رواه الترمذي . والنهي إنما هو لمن يتعمد الصيام في آخره ، فالسنة المقررة صيام شهر شعبان أو أكثره من مبتدئه إلى منتهاه ، أما من لم يصمه من أوله ثم أراد الصيام بعد منتصفه فهذا هو الذي يتناوله النهي .
وفي هذا الشهر المغفول عن فضله ومكانته يصعد الدعاء إلى الرحمن ، وتفتح له أبوابُ القبولِ في السماء ، في ليلة النصف منه وفي غيرها من أيامه ولياليه ، قال صلى الله عليه وسلم { إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها ، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول ألا من مستغفر لي فأغفر له ، ألا مسترزق فأرزقه ، ألا مبتلى فأعافيه ، ألا كذا ، ألا كذا حتى يطلع الفجر } رواه البيهقي ، ويجيب رب العزة سبحانه دعوة الداعين في هذا الموقف الإيماني إلاَّ للمتدابرين والمتقاطعين ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال { إن الله ليطَّلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن } رواه ابن ماجة .
وشهر شعبان أيضاً شهر المناسبات العظيمة في تاريخ رسالة الإسلام الماجدة ودعوته الخالدة :
* ففيه بدأت هجرة المسلمين سراً من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حتى توَّجت بهجرته صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا الحدث العظيم مولد دولة الإسلام وقيام أول مجتمع مسلم على ظهر الأرض .
* وفيه تحققت أمنية الرسول صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة بعد أكثر من ستة عشر شهراً صلى فيها مستقبلاً بيت المقدس ، فقد كان كلما صلى رفع نظره إلى السماء بعد الصلاة وأكثر من الدعاء والابتهال إلى الله أن يُوجَّهه إلى الكعبة المشرفة ، قبلة إبراهيم وإسماعيل ، ومبعث النور الأول في الأرض ، فاستجاب الله سبحانه دعاء نبيه وأمر رسوله في شعبان بالتوجه في الصلاة إلى البيت العتيق ، فنزل الأمر بالتحويل ورسول الله قد صلى من الظهر ركعتين في مسجد بني سلمة ، فتحول بالناس إلى الكعبة في الركعتين الباقيتين ، وتحوّل الناس ، قال تعالى { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } البقرة 144 .
لم يكن تحويل القبلة إلى مكة تغيير لمنزلة المسجد الأقصى المبارك والقدس في الإسلام ، فإن كانت الأفضلية الدينية لمكة المكرمة والبيت العتيق ، فإن لبيت المقدس وللمسجد الأقصى المبارك أفضلية ، قال تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } الإسراء 1 .
* وفي شعبان من السنة الثانية للهجرة فرضت عبادة الصيام ، قال تعالى { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } البقرة 183-184 .
* وفي هذا الشهر ذاته من السنة الثانية للهجرة أيضاً فرضت زكاة الفطر ، قال ابن عمر رضي الله عنهما { فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين ، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة } رواه البخاري .
وفي شهر شعبان ، كانت بطولاتٌ وانتصارات ، قوَّضت عروش الظلم ودكَّت أركان العدوان :
* ففي شعبان من السنة الرابعة للهجرة ، كانت غزوة بدر الثالثة ، وقصتها أن أبا سفيان في نهاية غزوة أُحد صاح على مسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد موعدنا معكم العام القادم في بدر ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة أن يجيبه : نعم موعدنا معكم العام القادم إن شاء الله ، وفعلاً جاء صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان من السنة الرابعة للهجرة على رأس ألف وخمس مئةٍ من المسلمين المجاهدين ، يحمل لواءهم عليٌّ رضي الله عنه ، وجاء أبو سفيان ومعه ألفان من المشركين ، لكن دبَّ الرعب في قلوب المشركين فعادوا خائبين مدحورين بغير قتال .
* وفي الثالث من شعبان من العام الخامس للهجرة كانت غزوة بني المصطلق التي قتل وأسر فيها عدد كبير ، وانتصر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه ، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد ، وفيما بعد أطاق سراح معظم الأسرى .
وفيه كشف الله المنافقين وغدرهم وحنقهم على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وتحريضهم الأنصار على ترك نصرة ومؤازرة المهاجرين لإخراجهم من المدينة ، قال تعالى فيهم { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } المنافقون 8-9 .
* وفي شعبان كانت سرايا أخرى للمسلمين بعثها صلى الله عليه وسلم في أرض الجزيرة ، تحقق فيها النصر للمسلمين منها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في السنة السادسة للهجرة .
* وفي نهاية أيام شعبان نتهيأ لاستقبال مناسبة عظيمة ، ففي التاسع والعشرين منه ؛ يراقب المسلمون جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها هلال رمضان المبارك ، قال صلى الله عليه وسلم { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين } رواه البخاري ، ولأهمية شعبان هذه { كان صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره } رواه أبو داود ، أي كان يحتاط في عدِّ أيامه لتحديد بداية شهر الصيام .
الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت