الأقصى ليس فلسطينيًا

بقلم: سامي الأخرس


الصمت لغة لا يفهمها الكثير في زمن الفتن والخيانات، زمن أضحى يسوده " نظرية المؤامرة" الّتي أخرجت البعض عن هويتهم الوطنية، ومعرفة أصول المواطنة وعمقها الاستراتيجي، لتنحو بالبعض إلى أسفل الرذيلة الحزبية والفكرية، وتؤدي به إلى التحرك وسط غوغاء ويمارس دور خارج عن الصف القيمي المجتمعي الوطني الذي أصبح فيما يبدو غريبًا في الحسابات الفلكية الرقمية في أرصدة الجهالة والضحالة الفكرية والأيديولوجية، ومن ثم مترتباتها ومخرجاتها الوطنية.
هناك من استدرك الحالة وأدرك أن المنطقة تمرّ بإعادة ترتيب جديد، على أسس تبادلية الأدوار، وعليه شَخص الحالة وطنيًا ثمّ سياسيًا فوقف مسافة واحدة ممّا يدور في المنطقة من باب الحرص على الوطن ومصالحه العليا، التي تعلو على الأحزاب والجماعات والأشخاص، وهناك من اصطف في محور" إن غرقت لحقها رجلك" فيريد أن يُغرق الوطن في مستنقع وضع قدمه فيه ولم يعد يقوى على الخروج منه.
منذ أن بكت السمّاء قادة فلسطين الذين صاغوا استراتيجية المقاومة والسياسة، وضعوا خطوط التماس مع الكل المحيط من موقع المصلحة العليا، احتفظ الفلسطيني بمفاتيح ومداخل المعرفة الاستدراكية للحالة المحلية والإقليمية والدولية، فلم تخطئ في التقديرات والمواقف والفعل، ولم تُحيد عن عمق الامتداد الاستراتيجي الوطني بكل تناقضاته مع المحيط، ورغم ذلك لا زالت هذه الدموع المتساقطة تبحث عن تربة خصبة للإنبات الوطني الذي أصبح يبحث عن الذات في ظّل رداء الجهالة، وقصر النظر، والمراهقة العصبوية، والتجاذب، والتكالب على كلَّ المنجزات الوطنية، لتحويل مسار الفعل إلى غوغاء وضوضاء، وصدى لا يحمل أكثر من ضجيج.
عبثية المشهد تجلت بالأمس في اقحام المسجد الأقصى في فتنة بين شعبين شقيقين لا يوحدهما الجوار واللغة، والدين، والعروبة فقط، ولا نظرية الأمن، بل لغة المصاهرة والتزاوج، أي شراكة الدم والمصير، ففي فلسطين المئات إن لم يكن الآلاف المستولدين من أمهات مصرية، والعكس صحيح، وهو العامل الأكثر ديمومة في صراعنا مع أبواق إعلامية وسياسية وأيديولوجية، تكالبت لأجل مصالحها لخلق فتنة بين شعبين كبيرين في المقام والعطاء، والفداء، وأصبح العقل مسيس في اتجاهات شاذة منحرفة وطنيًا في لعبة استلام الكراسي التي ورثت عن نظام " مبارك" جهالة وتجهيل الرأي العام الشعبي من خلال " نظرية العادلي" وجيش الإعلاميين الذين انحرفوا بمصر إلى معركة وهمية مع الجزائر، يمارسوها اليوم مع فلسطين وسوريا، والزج بالفلسطيني في معادلة قذرة لتأليب المصريين على المواطن الفلسطيني، أسلوب قذر يتبعه الطرفين الآن بالتلاعب بالوعي الوطني المصري، والزج بالفلسطيني في معمعان معركة التجاذب والحسم بين المعسكرين، فكل معسكر وجد ضالته في شخصية ما أو حركة ما، معسكر وجد بشخصية " محمد دحلان" عكازه ليخفي عرجه السياسي، ومعسكر وجد بغزة عكازه ليخفي عرجه السياسي، وممّا ساهم في هذه السخافة بعض الأبواق المراهقة الفلسطينية التي تحاول تصفية حساباتها الحزبية مع الآخر لتلعب لعبة قذرة وقودها شعبين عريقين بالنضال والتضحيات.
إن قمة السقوط والرذيلة تجلت بالأمس في رفع صورة الرئيس المصري المعزول " محمد مرسي" في المسجد الأقصى وهي إن دلت فإنها تدل على الآثام الصهيونية التي تريد إشعال سعير الفتنة بين شعبين، وأين؟ في رحاب المسجد الأقصى الذي لا يعتبر فلسطيني، بل هو مسجد كل الموحدين على هذه الأرض، المسجد الذي لم يُسيس منذ فجر التاريخ ولم يصبغ بأي صبغة سياسية سوى في هذه الحادثة المبتذلة التي تتناغم وتتوافق مع الحملة المتصهينة الإعلامية، وتأجيج نيران الفتنة بين الشعبين المصري والفلسطيني، وفي هذا التوقيت بالذات، حيث الحفريات تحت المسجد الأقصى، وكذلك الأحداث في مصر، وما يجري من طبخ حرب طائفية في سوريا والعراق ولبنان، وحرب استهلاكية في ليبيا وتونس، واليمن، ومصر، واعتداءات آثمة في سيناء، ومراهقة البعض المتصهين.
الحديث هنا ليس اعتباطي، والفعل في المسجد الأقصى ليس عشوائي أو عفوي، ولا ننظر له بمراهقة سياسية، بل هو بكل تأكيد فعل تآمري مبرمج ومدروس ومخطط له، فعل لا تخفى منه بصمات المطبخ الصهيوني الذي يريد للفعل رد فعل، ورد الفعل المستهدف من الأشقاء في مصر، ومن ثم تقزيم الكل الوطني – العروبي – القومي.
المشهد ليس ببعيد عن حلقات التاريخ المتواصلة والمتصلة، بل يتساوق ضمن حلقات معينة بنفس الفعل الجهادي الذي دفع العرب مقابلة مليارات الدولارات في الدعاية والتحشيد للجهاد الأمريكي في أفغانستان، ضد نصير الثورة الفلسطينية، ففي الوقت الذي كان به مقاتلو الثورة يتدربوا على القتال في المعسكرات السوفيتية، كانت ماكنة المال العربية تحشد خيرة شباب الأمة وتغويهم للجهاد لصالح الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية، وبذلك دمرت مقومات الأمة الاقتصادية والبشرية من خلال الزج بخيرة أبنائها في التطرف، وضرب عصب الأمة وشريانها المستقبلي، ومن ثم عادت نفس الماكنة المالية العربية لتلاحق هؤلاء الشباب وبذلك أصبحت مقوماتنا العربية تصب كل خيراتها في علاج ما صنعته، وعليه أسقطت كل الرهانات على شبابنا لتحقيق وصناعة وبناء مستقبل زاهر لهذه الأمة، التي وقعت بين فكين التطرف والرذيلة، فأصبحنا نمتلك أجيال استهلاكية مستهلكة العقول والتفكير، عاجزة عن تحقيق مصالحة مع النفس ومع الأوطان ومع المستقبل. وهو ما يتم الآن بنفس الأهداف وباختلاف الوسائل والأدوات.
لا أقرأ الحالة من زاوية الأيديولوجيا أو الحزبية، ولكن أقرأ من باب المواطنة الحرة التي ترى الوطن بقيم ومفاهيم الأيديولوجيا المستوحاة من شعب لا زال يقارع الصهيونية بأدواتها ووسائلها، والاندفاع صوب أدلجة أجيال نُعول عليها بأن تقودنا لمستقبل أفضل وأطهر، فيتم أدلجتها بمعتقدات الهدم الشاذة، والتطرف والانزلاق في براثن التطرف والطائفية والبغضاء، وأخذها لمزيدٍ من التطرف والانقلاب على المجتمع القيمي الوطني، والعروبي، والقومي، والديني، وحرفها عن دافعيتها وحبها للاستشهاد والنضال لأجل قضيتها الرئيسية والمركزية، وحرف بوصلتها، لتتهاوى تحت الفتنة وهتك الكرامة والوطنية، بعيدًا عن إستراتيجية الفعل الحقيقي، والانفصال عن عربة القيادة المتجهة صوب فلسطين.
نعم إن المسجد الأقصى ليس فلسطينيًا، ومن رفع صورة الريش المعزول يُدرك هذه الحقيقة، ويُدرك تبعاتها، ويُدرك مراميها، وأهدافها، وعليه فما الغاية من توقيتها؟
الإجابة في جوهر السؤال، لا تحتاج لتفسيرات وتحليلات بل تحتاج لوعي وتأمل للمشهد عامة، ليستطلع شبابنا هلال الحقيقة بكل تياراتهم الفكرية وانتماءاتهم الأيديولوجية، لاستدراك الحقيقة والاستدلال منها على عمق الحدث وبوصلته.
د. سامي الأخرس
14 يوليو " تموز" 2013

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت