إن النفس السوية التي تأتي بالفكر والإعتقاد المنسجم مع ما يحيط بالكون من سنن إلهية وما وضع من تشريع رباني يقوم حياة الإنسانية ويرتقي بالنفس ووجدانها لترفعها إلى معالي القيم والعمل الصالح والسلوك الحسن ليتحقق التوازن والميزان الذي وضعه الله سبحانه وتعالى بالحق في كل شيء ، وما النفس المريضة إلا أنها انحرفت عن منهج الحق واضطرب وجدانها وتفكيرها بما تحمل من عقائد باطلة استمدتها من هوى الشيطان والشهوات والقوة المادية التي تحكمت وسارت بها نحو الضلال والفجور دون أن تسمح لعقل الحكمة أن يتوقف لحظة صمت و يتفكر بما أحاط من دلائل القدرة والوحدانية فيبصر آيات الله في كل شيء عل القلب يفوق من غفلته ويستيقظ على بصيرة فيبصر الحق المبين، لكنه الداء الذي استعصى على الشفاء من أي دواء لشدة ما أصاب النفس من ظلم وطغيان وغشاوة في البصيرة أعمت السمع والقلب والأبصار .
الكذب : حالة نفسية وعقلية يستخدمها الإنسان في أحيان للدفاع عن ذاته وأخطائه وعدم الإعتراف بما فيه من سلبيات وما يعانيه من ضعف وفي أحيان أكثر يغير بها الحقائق لأجل تحقيق مصالح أو أغراض في النفس و لإشاعة الفتن بين الناس يسعى بذلك ليحقق النصر على خصمة أو يظن أنه المنتصر على كل ما يخالف ما يعتقد ، وما ذلك إلا مرض نفسي ينطلق من بعد الإنسان عن ربه ومعرفته به ويخالف خلق الإيمان ولا يمكن أن يجتمع معه فمن كذب القول والفعل فقد ثقة الناس به وعاش مهزوزاً مذلولا لا يستحق أن يؤخذ من حكمه وقوله شيء .
والكذب سلوك سلبي مركب ينطلق منه سلوكيات مرضية أخرى تدل على إضطراب النفس وتشتتها و خلل في الفكر والإعتقاد، الكاذب يظن نفسه أنه يتصرف بقناعة ذلك السلوك الذي يتماشي من شهواته ونزواته ولعله يسقط سلوكه هذا على خصمه .
الكذب يُولد سلوكيات مرضية أخرى كالسرقة والإحتيال والعدوان والظلم وأكل حقوق الناس بالباطل والقتل دون مراعاة لأي مشاعر وحقوق إنسانية كما يزرع في النفس الكبر والغرور والإعراض عن سماع المنطق السليم والإنصات لصوت الحق القويم فهو يؤدي بالإنسان للفجور كما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الإفتراء : كذب فظيع يقوم على تغير وقلب الحقائق والإتيان بما يخالفها وإشاعتها بين الناس والإستمرار في ملاحقة الحقيقة والإعتداء عليها بالباطل وتوليد مزاعم مغرضة وتحريض للعامة بعدم إتباعها والخسارة التي ستلحق بمن تبعها، و الدعوة لإتباع منهج الباطل والخداع والتغرير بالناس أنه السعادة والخلاص من عقد التخلف والرجعية كما يدَعون ، وما كل ذلك إلا لإشاعة الفتن والإيقاع بين الناس وتفريق الجماعات والأفراد كي تبقى الحياة مضطربة لا تقوم على الثقة والإحترام بل على التخوين والخوف والبعد بين الناس لكي تتحقق مصالح المغرضين ويستمر فسادهم واستعلاءهم على الناس وعلوهم في الأرض دون حسيب ولا رقيب وعدم السماح لأن تسود العدالة بين الناس وأن يعم الإستقرار في المجتمعات وأن تستوي السلوكيات وتحفظ الدولة أبناءها من الإنحرافات وزيادة الجريمة والفساد .
جاء القرآن الكريم بالكثير من الآيات التي تحدثت عن هذا السلوك أو الميكانزم الدفاعي المرضي لذات الشخصية المشركة بالله والتي كفرت برسالات الله وحاربت رسله ورسالته فكان أكثر ما اعتمدت عليه في أسلوب محاربتها وتصديها للحق هو كثرة الكذب وإختراع الأكاذيب الباطلة والإدعاءات الزائفة على الحق ومن معه .
فيما يلي عرض لأهم الآيات وموضوع الكذب الذي مارسه الكافرون وأهم الأحداث والمواقف التي دارت حول ذلك الأمر والنهاية التي توعد الله بها هؤلاء الكاذبين أو تحققت بهم في حياتهم الدنيا :
إفتراء وتكذيب بالآيات
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)يونس
من يتجرأ على أن يقول على الله سبحانه وتعالى بغير ما لا يليق به سبحانه وتعالى ومن يجرُأ على أن ينسب إليه ما لا يليق بإلاهيته ووحدانيته ، فهذه الأية تعطي صورة لمن فحُش ظلمهم وعدوانهم وإفترائهم على الله ورسالته، فقد أخذوا بمنهج المحاربة لله ودينه من خلال تزوير الحقائق والدلائل الصادقة على صدق الألوهية لله رغم معرفتهم أنها الصدق ورؤية الدلائل والمعجزات من حولهم .
فالإفتراء الكذب الشديد القائم على قلب الحقائق وتزويرها وتهويلها ونشرها بين الناس لأشاعة التغرير والإضطراب وإبعاد الناس عما يُدّعَون إليه من الحق،فهم لم يكتفوا بعدم الإيمان والكفر بل عملوا على محاربة الله سبحانه وتعالى بتشويه رسالته والتكفير بآياته .
ومن صور الكذب أنهم نسبوا الى الله الولد وأنه والد تنزه الله عن ذلك ، ونسبوا رسالته أنها كذب وسحر ومن عند شاعر ، وأنكروا المعجزات وسخروا منها حتى تمادوا بالطلب أن ينزل عليهم الله ما تمنوا من أمنيات أو ينزل عليهم العذاب كسفا أو جملة واحدة وهم يستبعدون ذلك وكذّبوا الرسل والنبوة وتمادوا بالطلب أن ينزل هذا القرآن على ملك يشهد على قول الرسالة وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويثبت لهم أنه ليس بشرا منهم وذلك لسفاهة عقولهم و جهلها .
فأي ظلم أعظم من هذا الظلم الذي يقع على الله وآياته وأنبيائه ورسالاته فهولاء يؤكد الله سبحانه وتعالى بوعيده لهم أنهم ظالمون هالكون وأن الفلاح لن يصيبهم في دنياهم ولا آخرتهم مهما حققوا من متاع قليل في الدنيا إنما سيصيبهم العذاب الأليم بما كانوا يفترون على الله الكذب .
إفتراء وتكذيب بالحق
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ) العنكبوت(68 )
الظلم عندما يَتصف به الإنسان يكون قد وصل لفعله السلوكي الذي دُعِى ليُتصف بهذه الصفة المخيفة ، ويكون الظلم أن يوضع شيء في غير مكانه اللائق به أو الذي لا يمكن أن يليق به والإتيان بشيء ضده يخالف ما كان يجب أن يكون ، فالكافرين رغم سماع الحق والتأكد من صدقه ودلائل معجزاته ورغم تعايشهم في ظل نعمائه وآياته إلا أنهم أنكروا وكذبوا به ووضعوا أصابعهم في أذانهم وأصروا واستكبروا أستكبارا .
ومن شنيع ما فعلوا أنهم كانوا يخبرون الناس أن لا يستمعوا للحق والإدعاء عليه بالكذب والبهتان والجنون ولكن الله سبحانه وتعالى أقوى من جبروت ظلمهم وإفترائهم ينصر الحق مهما أحيط به من مكر الماكرين وظلم الظالمين .
لقد سمعوا آيات التحذير والإنذار والترهيب من سوء العاقبة ومن لقاء يوم عظيم يكون فيه المستقر والخلود للقوم الظالمين بما أخفوا من حقائق وغطوها عن أعين الناس ليلبسوها بالباطل والكذب والتحريف، ورغم ذلك لم يعتبروا ولم يتراجعوا عن إصرارهم بالكفر والكذب .
فالأية تدعوا لإعمال العقل في أفعال هؤلاء الفئة الظالمة ليعرف ما فعلوا ضد الله ودينه وشريعته وأنبيائه ليصل العقل للإعتراف والتسليم أن لا شيء أظلم من ذلك الفعل العظيم ولا ظلم أفحش من أن يفترى الإنسان على ربه ويكذب بما أنزل بالحق ليضع مكانه ما لا يتناسب مع حاجة الخلق ولا يناسب الخالق سبحانه وتعالى .
تكذيب بالصدق
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) الزمر
العلو بالكذب على الله بالقول والفعل والله سبحانه وتعالى لا يُعجزه شيء وهو على كل شيء قدير ولكن يُمهل الإنسان الظالم ولا يُهمل، فمن يتقول على دين الله ومن تبعه بما ليس فيه ووضع ما لم يشرع به فهؤلاء هم الظالمون فهم ظلموا أنفسهم بهذا الضلال العظيم وما ستكون عاقبتهم وما حرموا به أنفسهم من خير لو لم يفعلوا ذلك وأمنوا بربهم، وظلموا غيرهم بما أشاعوا من قول الفساد والعمل وما نشروا من عقائد فاسدة فانحرفوا عن معرفة الحق والصدق الذي أنزل من الله .
الصدق هو القرأن الكريم والرسالات والنبي محمد صلى الله عليه وسلم والمعجزات والمؤمنين وكل ما جاء به التشريع فهو صدق لأنه حق من الله سبحانه وتعالى ثابت لا يتغير ولا يتبدل ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لم يأؤتى من إنسان بل هو وحي يوحي لنبيه ليُبلغ الناس كافة ويصلح أحوالهم وحياتهم وتستقيم على الهدى والنور .
يتعالى على الله بكذبه الذي يخالف الحقيقة والواقع المُنزل ويكذب الصدق الثابت من الله ويدّعي عكس ذلك لتضطرب نفسه ومجتمعه ذلك أعظم الظلم عند الله حيث يُنصب الإنسان نفسه الحق أن يضع قوانين وشرائع بيديه تقصر على أن تكون صالحة لحياة الإنسان وما تأتي بكثير منه إلا بالفساد والظلم والميل إلى النزوات والشهوات .
هؤلاء الظالمين يتوعدهم الله بمثوى لهم وهو المقر الدائم والإستقرار النهائي لوجودهم والجزاء المناسب لجنس عملهم وسلوكهم للخلود في نار جهنم جزاء كفرهم وظلم وضلالهم ، ومن رحمة الله بالناس أنه لا يعذب أحدا ولم يؤاخذ بما سلك قبل أن يبعث له رسولاً ورسالة تبشره وتحذره وتنذره وتعلمه ولكن أكثر الناس يصرون على الحنث العظيم والكذب والكفر بالله وحده سبحانه وتعالى .
تكذيب الآيات والصد عنها
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ) الأنعام ( 157 )
يفضح الله سبحانه وتعالى أحوال الكاذبين من يدّعون أن لا تناسب بين آيات الله و الحياة السعيدة للإنسان حيث يدّعون أن الباطل وما فيه من شهوات ونزوات هوما يقيم الحياة السعيدة الكريمة للناس وما هذا إلا كذب وإفتراء وبدعوى من الشيطان وطاغوت النفس والميل للإنغماس في الشهوات الحيوانية دون تحرك لعقل أو منطق سليم يدفع للتفكر والبحث عن الحقيقة للإستدلال على الحق سبحانه وتعالى .
يمارسون سلوكاً يندفع بمشاعر الحقد والغل والحسد إتجاه دعوة الإيمان وعدم السماح لها أن تقوم و تنتشر ويمكرون بها بليل و نهار لأجل الإيقاع بها وبأهلها من المؤمنين الصادقين وكل ذلك تبع للمصالح الذاتية وتحقيق للأهواء النفسية المريضة في قلوبهم .
ومهما مكر الماكرون حول دين الله والصد عنه والإفتراء على الله وما أنزل من عنده وعلى أهل الإيمان والأنبياء والصالحين فإن وعد الله حق والأمر الذي يريده الله سيكون وسيرد مكر الماكرين عليهم ليكون حسرة وندامة وهلاكا لوجودهم ووعيد الله لهم قائم بما ينتظرهم من سوء العذاب والهلاك وذلك لسوء ما فعلوا في الحياة الدنيا ضد الإيمان ودعوة الحق .
إن الإتيان في نهاية الأية بالفعل المضارع في الصدف لأن فعلهم ضد الحق لن ينتهي ولن يتراجعوا عنه بل سيستمرون وسيخلف أتباعهم عقيدتهم الباطله ليبقى هناك من يحارب الحق ويفتري عليه حتى قيام الساعة .
إن الكذب والافتراء أسهل الأساليب الشيطانية التي يأتي بها الكافرون والمنافقون لكي يحاربوا بها خصمهم من اهل الإيمان لأنهم يعرفون أن المؤمن لن يأتي بمثل ما يأتون ولن يقدروا على فعل أفاعيلهم وأكاذيبهم الباطل وقلب الحقائق والتزوير للوقائع الحادثة على الأرض، فالمؤمن أمتلك عقيدة ومنهج تربوي رباه على الصدق مع الله ومع الناس في المعاملات وحذره من الوقوع في الكذب الذي يخرجه من صدق الإيمان وجمال خلقه .
الله سبحانه وتعالى لا يُفترى عليه ولا يَقدر أحدٌ من مخلوقاته التحايل بالكذب عليه ولا يمكر به الماكرون ولا يعتدى عليه المعتدون، إنما بين الله سبحانه وتعالى في بعض الآيات هذه الأمور ليدل على بشاعة صنع هؤلاء المجرمين ضد الحق وأهله فمن يعتدي على الأنبياء والمرسلين والرسالات السماوية وأهل الحق ومن تبعهم من الصالحين كأنه اعتدى وافترى على الله سبحانه وتعالى، فالله رفع الحق ومن حمله ليكونوا من أوليائه وأهله فمن أذاهم كأنما آذى الله هم أولياؤه في الحياة الدنيا وفي الآخرة فكيف لا يَنسب ما يُصيبهم من أذى كأن أصاب سبحانه وتعالى والله يُمهل ولا يُهمل ولا يأخذ الناس في حال وقوع ظلمهم لكن يُعطيهم الوقت فإن لم يتوبوا ويرجعوا زاد في طغيانهم في الأرض وإشاعة أكاذيبهم كي تأتي العقوبة منسجمة بشدتها مع شدة ما فعلوا من كذب وافتراء وعدوان .
كيف لا ينصر الله سبحانه وتعالى الحق ومن حمله من المؤمنين وهم من سخروا حياتهم وأوقاتهم لخدمة دين ربهم و نجاح الرسالة وإقامة عدل الله في الأرض كيف لا يدافع عنهم وهم من بذلوا الغالي والنفيس وضحوا بأرواحهم وأولادهم وأموالهم في سبيل إعلاء كلمة الحق والتوحيد ولم تأخذهم في دين الله لومه لائم وهم من تركوا متع الحياة وزينتها ليعيشوا حياة الألم والعذاب والشدة ممن يَكذبون عليهم ويُؤذونهم من أهل الباطل فصبروا واحتسبوا أمرهم لله .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت