وغاب صديق آخر...

بقلم: جمعة ناجي

وغاب صديق آخر...

للنهايات الحزينة مراراتها الأشد ايلاما ووجعا خصوصا حين تكون تلك النهاية لصديق امتحنت السنون اخلاصه ووفاءه لوطنه وأمته ورفقائه... لصديق لم يته في الاعصار ولا أضاع الدليل أو الطريق من قدميه وظل يجذف بعناد ورغم جبال الجليد نحو شاطئ الحرية، مثلما كان في العقود الخوالي شمعة عنيدة في الظلام و الأنواء.

صديق عزيز آخر يرحل، وطني ثائر يختزن فلسطين التي اختزنته واختزنت كل الأوفياء لها في حدقات العين ولا ترحل... حلمه لا يرحل وميراثه الابدي من السمو والرفعة والرقي، خصاما أو وئاما لا يرحل.

صديق نبيل يرحل، خسارة وطنية وقومية وشخصية، أيها الفلسطيني رسالة وهوى وحلما... كم مرة قلت اذ نلتقيك وما أبهج لقياك بنا أيها الراحل: ان اكرم نهاية لمناضل عربي الاستشهاد على أرض فلسطين الحبيبة، أرض فلسطين السليبة أرض القدس والاقصى أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين... ان كانت المقادير أيها الصديق قد ضنّت عليك بثرى فلسطين فإن روحك تحلق هناك في سمائها مع أجدادك السالفين الشهداء الرواحل منذ صلاح الدين... مع أشقائك الشهداء الفلسطينيين الذين نذرت حياتك لنصرة قضيتهم ونصرة شعبهم دون أن تغدر ولو لمرة واحدة بأي حق من حقوقه تحت طائلة الضغوط من خلف الخطوط. وفلسطين كما تعرفها أيها الصديق وفية كانت وستبقى لمن كان وفيا لها في الوطن الكبير كما في الوطن الصغير بل وفي كل مجاهل الدنيا وفلواتها.

صرحا قوميا راسخا كنت لم تهز عتباته رياح القطرية أو «الفئوية» أو «الجهوية» أو «المذهبية» أو «الطائفية» التي استهدفت امتك والقضاء على هويتها العربية الاسلامية وتحويلها الى مجرد محميات... والى أمة سالفة لا بأس من البكاء على أطلالها وأمجادها الغابرة، بل عشت حتى الرمق الاخير مؤمنا بهويتك العربية ملاذا، وحوضا تنمو فيه كل يرقات الامل بالوحدة يوما حتى وان اضاعت مكة شعابها زمنا.

فارس كنت أيها الصديق و«ابن بلد» و«هيكل الجنوب»... قلت يوما: نحن شركاء مع شعبنا الفلسطيني ولسنا متضامنين كأجانب نعلين وبعلين مع الاحترام الكبير لدور هؤلاء الاجانب ونصرتهم لفلسطين... انفقت عمرك عين على تونس، وعين على فلسطين... جرح فلسطين جرحك وملهمك في مشروعك الشخصي والوطني والقومي... وكنت أبدا مع فلسطين مظلومة أو مظلومة، لأنها لم تكن يوما ظالمة ولن تكون.. استلهمت المسافةبين النقد الذي يستهدف التطوير فأخذت به، والعدمية التي تستهدف التحطيم فجانبتها...

حين سرت مع الجموع الهادرة لتشييعك الى مثواك الاخير... ايها الصديق براهي حين شاهدت عشرات الآلاف من الشباب والصبايا والكهول في تلك المسيرة وفاء لمناضل محب لشعبه وأمته ومحبوب... حين قرأت اليافطات المرفوعة وأصغيت الى الشعارات... حين شاهدت علم فلسطين خفاقا في سماء تونس الشهداء الى جانب علم تونس الحبيبة...
عدت بالذاكرة الى مسيرات مماثلة في فلسطين وقبل ما يفوق على الخمسين عاما، وكنا في مطلع الشباب... كان فحواها المطالبة بتحرير فلسطين... والوحدة العربية، ورفض الهزيمة... اضافة للحرية والتحرر...

كما عادت بي الذاكرة الى رموز ذياك الزمان وقادة حركاته الوطنية والذين استشهد معظمهم إما في السجون... او في «صهريج» غسان كنفاني في روايته ورائعته رجال في الشمس... واما الموت تحت سياط الجلادين... أو في مسيرات وتظاهرات او رصاصات في الظلام.

ها نحن نعاود المسير على نفس الاشواك بعد اكثر من خمسين عاما.. ونتجرع نفس الآلام... فلسطين لم تزل محتلة بل استكمل العدو الصهيوني احتلال الشطر الاخر من فلسطين... والوحدة العربية بل التضامن العربي بات وهما وسرابا، وحتى وحدة كل قطر عربي باتت في مهب الريح، والشهداء يرتقون تباعا، والرموز الثورية بين الحصار والترويض والتركيع والموت قهرا، أو «الرحيل»... منذ الشهيدة رجاء أبو عماشة في القدس في خمسينات القرن الماضي الى الشهيد الصديق محمد براهمي 2013.
لكن مسيرة الشعوب مستمرة... والمشوار مستمر... ونصف قرن أوقرن من الظلم لا يرسم مصائر الشعوب ولا مجرى التاريخ «ولحظة من العتمة لن تعميها».

ترحل أيها الصديق وفي ذاكرتنا الوطنية أنت، وفي سجل الخالدين أنت... سنفتقدك كلما هبت الشعوب المغلوبة... كلما انتزع مظلوم حريته واستعاد كرامته... كلما أشرقت شمس النصر فوق أية بقعة في هذا العالم ضد مستعمر او طاغية، فوداعا أيها الصديق... وداعا اذ تغيب صديقا وفيا آخر «إنّا & وإنا إليه راجعون».



بقلم جمعة ناجي
ديبلوماسي سابق وكاتب فلسطيني

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت