مفاوضات اللا توازن

بقلم: علي بدوان


تشير الوقائع الملموسة بأن العودة "الإسرائيلية" لطاولة المفاوضات المباشرة مع الطرف الفلسطيني الرسمي في واشنطن تمت انطلاقاً من المصلحة "الإسرائيلية" البحتة لتجنب فرض العزلة على الدولة العبرية، ولمنع وعرقلة أي تطور أو ميول سلبية في الحلبة الدولية ضد "إسرائيل" خصوصاً مع تصاعد وتيرة التنديد والرفض العام لعمليات الاستيطان والتهويد الجارية فوق الأراضي المحتلة عام 1967 وخصوصاً في منطقة القدس. عدا أن الاتفاق على بدء المفاوضات بين الطرفين لا يُشكل خطرًا على الإئتلاف الحكومي في "إسرائيل"، ذلك أن الطرف اليميني في الحكومة، مثل حزب البيت اليهودي، لن يترك الإئتلاف، لأن زعماء الحزب يؤمنون بأن المحادثات في واشنطن لن تجلب شيئًا، ولكن من المحتمل أن تنشب خلافات داخل الإئتلاف على خلفية المواقف "الإسرائيلية" التي قد تكون مهادنة شيئاً ما خلال الأشهر التسعة المقررة للعملية التفاوضية.

بدورها، جاءت العودة الفلسطينية الرسمية لعملية التفاوض تحت ضغط الإدارة الأميركية، التي تحاول وعبر وزير خارجيتها جون كيري تحقيق إنجاز ملموس يصب في صالح تحقيق ما تسميه بـ (النقلة النوعية) في مسار العملية السياسية المتوقفة منذ ثلاثة سنوات بين الطرفين و"الإسرائيلي". ومن العلوم بأن الضغوط الأميركية على الجانب الفلسطيني تتخذ في العادة عدة مداخل يقع على رأسها الضغط المالي من خلال التهديد بوقف تدفق الأموال من الدول المانحة للسلطة الوطنية الفلسطينية وهي الأموال المخصصة لإدارة مؤسسات ووزارات السلطة وكتلة الرواتب لعموم العاملين والموظفين فيها. أما الضغوط "الإسرائيلية" على الطرف الفلسطيني فتتخذ عادة طابعها العسكري والأمني على الأرض فضلاً عن الضغط المالي المتمثل بوقف تدفق الأموال المجباة من قبل "إسرائيل" لقاء الضرائب المستوفاة عن البضائع المتدفقة لأراضي السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وحتى قطاع غزة.

وعليه، فإن العودة للمفاوضات تمت تحت معادلة مدروسة أميركية و"إسرائيلية" لن يكون فيها من نصيب للفلسطينيين سوى الرضوخ والقبول بالمنطق والرؤية الأميركية للحل وهي الرؤية المنسجمة والمتناغمة مع الموقف "الإسرائيلي" وإلا فإن سيف الضغوط سيعود مرة جديدة بشكل أقسى وأكبر على عموم الحالة الفلسطينية في الداخل المحتل عام 1967.

وفي هذا الصدد، وحسب تسريبات من مصادر شبه موثوقة، فإن ما يتوقع أن يعرض على الفلسطينيين في جولات المفاوضات القادمة يندرج تحت عنوان (خطة جون كيري) والتي تتضمن إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 مع تبادل أراض متفق عليها ومتساوية في المساحة والنوعية وإجراء المفاوضات على الحدود والأمن لفترة تتراوح من ستة إلى تسعة شهور دون إلزام الدولة العبرية الصهيونية بوقف عمليات تهويد واستيطان الأرض، على أن يضمن جون كيري قيام "إسرائيل" بتقليص البناء في المستعمرات خلال المفاوضات إلى أقصى حد (لاحظوا

العبارة المطاطة والملتبسة: إلى أقصى حد)، كذلك إطلاق خطة اقتصادية لإنعاش الاقتصاد الفلسطيني (عودة للمتاجرة بمقولة السلام الاقتصادي).

وفي حقيقة الأمر، إن الخطة إياها عبارة عن خطة مكررة على المنوال ذاته ولم تأت بالجديد في السياسة والموقف الأميركي بشأن عملية التسوية مع الطرف الفلسطيني، علماً بأن مسؤولين فلسطينيين قد صرحوا أن خطة جون كيري العتيدة لا تحمل أية جداول زمنية ملزمة ولا التزاماً "إسرائيليًّا" بالعودة إلى المفاوضات لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967.

إن "إسرائيل" تطالب بأن تكون الدولة الفلسطينية التي يجري الحديث عنها، دولة منزوعة السلاح مع وجود عسكري "إسرائيلي" طويل الأمد في القسم الأكبر من مساحة من أراضيها وتحديداً في وادي الأردن، ومراقبة مجالها الجوي وحدودها الخارجية. ودون تفكيك المستعمرات القائمة في مناطق مختلفة من الضفة الغربية والقدس الشرقية، وهي مستعمرات كبيرة تمنع التواصل الجغرافي بين مناطق الكيان الفلسطيني المفترض، ويفوق عدد المستوطنين فيها نحو نصف مليون مستوطن يمثلون زبدة المتطرفين في الكيان الصهيوني العبري. عدا عن أن خطة جون كيري تتناسى وتتغافل تماماً جوهر القضية الوطنية للشعب العربي الفلسطيني، ونعني بها قضية حق العدة لأكثر من 65% من أبناء فلسطين.

إلى ذلك، وأمام احتمالات الفشل الواضحة، وإمكانية تكرار ما حصل طوال العشرين عاماً الماضية، فقد رأى الباحث "الإسرائيلي" شلومو بروم وهو باحث مقرب من الإدارة الأميركية ويحاول اتخاذ مواقف معتدلة، رأى "أن إحدى الطرق لمنع الأزمة مع نهاية الأشهر التسعة، أنْ يتوصل الطرفان إلى اتفاق بأنهما لن يتفاوضا فقط على الاتفاق النهائي بينهما، إنما على الخطوات الانتقالية للاتفاق النهائي"، مشيراً إلى "أن هذه الخطوات تشمل في ما تشمل تحسين وضع الفلسطينيين، وتقوية الفلسطينيين من الناحية الاقتصادية بهدف إنشاء البنية التحتية لدولتهم المستقبلية وأيضا تقوية الاقتصاد الفلسطيني، وذلك عن طريق منحهم المزيد من الصلاحيات والمزيد من الأرضي التي تكون تحت سيطرتهم الكاملة"، وأشار شلومو بروم في دراسة منشورة مؤخراً إلى "أن اتفاقًا من هذا القبيل سيمنح الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي الفرصة لمواصلة المحادثات، والفرصة أيضًا لتقديم إنجازات أمام شعبيهما".

وبالنتيجة، إنها مفاوضات اللا توازن، فكل التقديرات تشير إلى أن العودة للعملية التفاوضية لن تؤتي ثمارها ما دامت تحت الرعاية الأميركية المنحازة وغياب المرجعيات ذات الصلة، وغياب الإرادة والرافعة العربية المفترضة للطرف الفلسطيني. ومن هنا أهمية الدعوة التي أطلقتها بعض القوى الفلسطينية لإغلاق ملف العودة إلى المفاوضات الثنائية برعاية أميركية انفرادية والإصرار على عقد المفاوضات في إطار مؤتمر دولي كامل الصلاحيات، يوفر الضمانات الضرورية لكي تكون مفاوضات جادة، وبما يؤمن آلية ملزمة لتطبيق ما يتم الاتفاق عليه خلال جدول زمني قصير

مفاوضات اللا توازن

صحيفة الوطن العمانية

تاريخ الخميس 8/8/2013

بقلم علي بدوان

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت