ليس لدى قوى "الإسلام السياسي" بمختلف أطيافها، من تكاتبه أو تجادله، أو تتواصل معه حتى، طالما هي مغلقة ومنغلقة على ذاتها. وهي لهذا السبب لا تحتمل وجود آخر ينافسها في مجالها، أو في أي مجال آخر. كذلك هي لا تريد ولا تعد نظرا لطبيعتها وطبعها، إلا بحكم مستبد غير عادل وغير رشيد. وفي نماذج من قبيل الحكم السلطاني والأنظمة الخليفية وحكومات يديرها "الولي الفقيه" أو تخضع خضوعا مطلقا لـ "ترشيدات المرشد" و "ترسيمات الأمراء"؛ ما يكفي لرؤية الحكم الثيوقراطي – التوتاليتاري وهو يخرج من عباءة الدين ليلج إلى عباءة السياسة، وليخرج من عباءة السياسة ليلج إلى عباءة الدين، وهذا وحده كاف لإفشال كل تجربة ومحاولة للمزج بين الديني والسياسي؛ على ما يمكن أن تؤول إليه تجربة الملالي في إيران، وتجربة "العدالة والتنمية" في تركيا، وعلى ما انتهت إليه مؤخرا تجربة "الإخوان" في كل من مصر وتونس، وقبلها تجربة "الحكم الإسلاموي" السوداني الذي كان قد توسل الدين في حكم سلطة قسّمت البلد، ونفّرت منها حتى أقرب المقربين.
تلك حقيقة ملازمة لقوى لا علاقة لها بالسياسة، إلا من حيث أرادتها وتريدها مطية للوصول إلى ما ترتجيه من سلطة وتسلط الاستبداد الثيوقراطي، في ظل مفاهيم ومعايير لا تساهم في صنع أو خلق فضاء مواطني، أو بشرا أحرارا لا يرتهنون إلا للعقل، ولمفاهيم نقدية تشمل حتى ضرورة إحداث إصلاحات دينية، تتلازم وضرورة إحداث إصلاحات شاملة، وصولا إلى تغييرات تاريخية لا تبقي ولا تذر؛ من أسباب الإعاقة والانحطاط التاريخي الذي لازم مجتمعاتنا ودولنا وأبقاها في الهامش، تجتر إرثا وتراثا لم نساهم نحن أبناء اليوم في صنعه، ولكننا نتبناه بالكامل، ومن دون أي رؤية نقدية تجاهه؛ وتلك قمة الإعاقة التاريخية التي نتردى في قيعانها.
هذا الواقع الموصوف في بلادنا، ليس وليد صدفة تاريخية، بقدر ما هو ناتج تحكم قوى رجعية متخلفة بالسلطة؛ سياسية كانت أو دينية أو أهلية، وتحكم أيديولوجياتها وهيمنة العقلية الاسبرطية مرة، والبسماركية مرات، للإبقاء على سلطانية الحكم، وإخضاعية المجتمعات وإرهابية الرؤى والتوجهات؛ كل هذا يستمد من الدين سلطته "الإلهية"، ومن السياسة سلطته الاستبدادية الطغيانية؛ وما بين استبدادين وطغيان المصالح الفئوية والخاصة، لم يبق من تجريب يمكن التعويل عليه، فالكل في السلطة سواء، والكل أمام السلطة يسكر في العماء، لهذا كان لا بد من سقوط الحكم الديني، بعد أن أثبت فشله المطلق في إدارة شؤون الدولة ومؤسساتها، وفي مصر لم يكن هذا استثناءا، فها هو يتكرر ويكرر ذات الأخطاء والخطايا في تونس، وفي ليبيا وإلى حد ما في اليمن، وها هم سلطويو "الدولة الإسلاموية" الموعودة في سورية يثبتون أنهم الأولى برعاية منطق الترهيب وقتل المخالفين من أقرب المقربين، وتكفير كل ما عداهم واستحقاقهم القتل والجزر؛ حتى يثوبوا إلى "رشد الحاكم بأمره" ويخضعون لإرادته ويقدمون له فروض الولاء والطاعة من دون الله ورسوله والمؤمنون.
هي المآسي – مآسينا – تجد اليوم من يعيد تكرارها على شكل مهازل تقشعر لها الأبدان، والضمائر الحية التي لم يلوثها استبداد أو طغيان. وكأن لعنة السلطة تنتقل من جيل إلى جيل، لتنبئ بما هو أقسى وأمر وأفظع مما رأته الأجيال السابقة أو السالفة، حتى لتبلغ الفظاعات القادمة جرائم موصوفة ضد الإنسانية، فأي إصلاح أو ثورة أو تغيير يمكن أن يبرر كل تلك الفظاعات التي فاقت وتفوق جرائم الأنظمة المستبدة الحاكمة؟.
لقد أحرقت العديد من قوى "الإسلام السياسي" سفنها قبل أن تصل إلى السلطة، وها هي وفي ضوء تجربة صعودها إلى السلطة، باتت تحرق الناس قبل أن تصل بهم إلى شاطئ الأمان المجتمعي والاقتصادي أو السياسي، وهي بالأساس لا ولن تعدهم بغير الحروب الأهلية مطية لها للحفاظ على سلطة لن تدوم، ولن تبقى تنهج نهجها السلمي أو السياسي، طالما هي تعتبر السلطة غنيمتها الخاصة، بصناديق اقتراع أو بغيرها.
هو الانغلاق التعصبي، ذاك الذي جعل العنصرية قاتلة، والتعصب الهوياتي قاتلا، والأيديولوجيات والعقائد الجامدة والمتخشبة ترتكب أكثر جرائمها فظاعة من دون أن تجد من يحاسبها عليها، فهل ينجو المغالون في "تدينهم" وفهمهم الأحادي والخاص للدين، مما يرتكبون من مجازر لفظية ومعنوية وتأويلية وفعلية وتقويلية، بحق أناس قد يكونون أكثر دراية وعلما بشؤون دينهم ودنياهم، من جهلة لا يؤمنون إلا بالسيف والساطور والسكين، وحديثا بالبنادق الرشاشة، وسيلة للحوار والتجادل غير الحر مع الآخر، وكل الآخرين؟.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت