منذ أن وطئت قدما أول مستعمر صهيوني أرض فلسطين كان الاستيطان ولايزال رأس حربة المشروع الصهيوني . تبدأ العمليّة دائماً بالاستيلاء على الأرض وبناء وحدة سكنيّة عليها، ثم تتسع أكثر وأكثر ليصبح هناك عشرات ومئات، وأحياناً آلاف الوحدات الاستيطانيّة، وتسمى كل عدة وحدات مستوطنة، وكل عدة مستوطنات كتلة استيطانيّة . . بعد ذلك تعلن “إسرائيل” عن عزمها ضم هذه الكتلة إليها، وتسعى لفرض هذه الحقيقة الاحتلاليّة على الأمريكان الذين يقومون بدورهم بفرضها على العالم والفلسطينيين باعتبارها حقاً مكتسباً ولا يمكن إزالتها أو طرد سكانها، بحجة أنه لا يعقل طرد مئات أو آلاف المستوطنين لأن إزالتهم يمكن أن تسقط أي حكومة “إسرائيليّة”، خصوصاً إذا كانت حكومة يسار أو وسط .
عند توقيع اتفاق أوسلو كان هناك 250 ألف مستوطن في الضفة الغربيّة، والآن بعد عشرين عاماً على هذا الاتفاق وفي ظل ما يسمى “عمليّة السلام” والمفاوضات الثنائيّة برعاية أمريكيّة أصبح هناك أكثر من 700 ألف مستوطن، وسيصبح عددهم حسب المخططات “الإسرائيليّة” أكثر من مليون مستوطن خلال عشرة أعوام .
الآن، يشكل المستوطنون نحو ربع السكان المقيمين في الضفة، ويتزايدون باستمرار حتى يفرضوا أمراً واقعاً من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تجاوزه .
من الأخطاء الكبرى التي ارتكبها المفاوض الفلسطيني عند توقيع اتفاق أوسلو، أن هذا الاتفاق لم يتضمن بنداً يقضي بإزالة الاستيطان ولا حتى تجميده، وبهذا سُمِحَ للحكومات “الإسرائيليّة” المتعاقبة الجمع بين ما يسمى “عمليّة السلام” وبين الاستمرار بمصادرة الأراضي، رغم أن الاستيطان والسلام خطان متوازيان لا يلتقيان .
لقد استمر الأمر على هذا المنوال، بحيث لاحظنا عند عقد مؤتمر أنابوليس في أواخر العام 2007 أنه لم يسبقه ولم ينتج عنه وقف الاستيطان بالرغم من أن خريطة الطريق الدوليّة المقرّة في مارس/آذار 2003 رغم كل عيوبها الجوهريّة نصت على إنهاء الاحتلال الذي وقع في العام ،1967 وعلى تجميد الاستيطان، بما في ذلك التكاثر الطبيعي، لكن حكومة شارون التفّت على هذه الخريطة بدعم أمريكي وتواطؤ دولي، حيث وافقت عليها مع وضع أربعة عشر تحفظاً نسفتها من حيث الأساس وحولتها إلى “خريطة طريق “إسرائيليّة”” .
*وفي العام ،2010 نفّذت “إسرائيل” لمدة عشرة أشهر مسرحيّة التجميد المؤقت والجزئي والانتقائي للاستيطان التي استثنت المستوطنات في القدس، ومن تلك التي تسمى الكتل الاستيطانيّة الكبرى، والعطاءات المعتمدة، ورفضت الحكومة “الإسرائيليّة” تمديد مسرحية التجميد، ورغم ذلك تم عقد مفاوضات واشنطن في سبتمبر/أيلول ،2010 والمفاوضات “التقريبيّة” التي انهارت بسرعة على خلفيّة رفض الحكومة “الإسرائيليّة” تجميد الاستيطان، ومن ثم عقدت ما سميت بالمفاوضات “الاستكشافيّة” في عمان في مستهل العام 2012 من دون وقف الاستيطان، وانهارت كذلك على خلفيّة التعنت “الإسرائيلي” الذي يريد أن يُدخل المفاوضات في حلقة جهنميّة لا تنتهي حول المفاوضات .
ورغم إعلان القيادة الفلسطينيّة منذ سنوات عدة بأنها لن توافق على استئناف المفاوضات من دون تجميد الاستيطان وإطلاق سراح الأسرى والتزام “إسرائيل” بالانسحاب إلى حدود ،67 إلا أنها واصلت المفاوضات السرية التي تكاد لم تتوقف، وتحت ضغوط أمريكيّة و”إسرائيليّة” وعربيّة وتحت تأثير استمرار الوهم بإمكانيّة نجاح المفاوضات الثنائيّة برعاية أمريكيّة، وبالرغم من الحصاد المر الكارثي لها طوال أكثر من عشرين عاماً، تم استئناف المفاوضات العلنية في شهر يوليو/تموز الماضي من دون مرجعيّة ولا وقف الاستيطان، ما يجعل هذه المفاوضات كسابقاتها محكومة إما بالفشل أو - وهذا أخطر - بالتوصل إلى حل تصفوي للقضيّة الفلسطينيّة، ويجعلها ليست أكثر من غطاء فلسطيني وعربي ودولي لاستمرار الاستيطان .
ابتزاز متعمّد
لقد كشفت الأسابيع الأخيرة، خصوصاً عشيّة وغداة استئناف المفاوضات في الشهر الماضي، بأن رئيس الحكومة “الإسرائيليّة” بنيامين نتنياهو وعد وزير الإسكان بإصدار عطاءات ببناء 4500 وحدة استيطانيّة خلال الأشهر المقبلة، وذلك مقابل قيام “إسرائيل” بالإفراج عن 104 من الأسرى المعتقلين منذ ما قبل أوسلو، على أن تتم هذه العمليّة خلال أربع مراحل: تبدأ المرحلة الأولى في الرابع عشر من شهر أغسطس/آب الجاري، وتنتهي المرحلة الأخيرة بعد 9 أشهر، شريطة استمرار المفاوض الفلسطيني على طاولة المفاوضات وإثبات جديته واستعداده لتقديم المزيد من التنازلات، وبهذا تحولت مسألة الإفراج عن الأسرى من حق إلى وسيلة ابتزاز .
كما كشفت المصادر “الإسرائيليّة” في الأيام الأخيرة عن وجود مخططات لضم 91 مستوطنة إلى خريطة الأفضليّة القوميّة “الإسرائيليّة”، ويعتبر عدد منها غير شرعي حتى بالقانون “الإسرائيلي”، حتى إنها لم تحصل على ترخيص من السلطات “الإسرائيليّة” نفسها . وهناك خطط لبناء 63 وحدة استيطانيّة في جبل المكبر في القدس، و676 وحدة استيطانيّة في سائر الضفة الغربيّة، منها إقرار بناء 93 وحدة في مستوطنة “شيلو”، تم بناء 17 وحدة منها، إضافة إلى مخطط لإقامة 595 وحدة استيطانيّة في مستوطنة “طلمون”، و38 وحدة في “كوخاف يعقوف”، و78 وحدة في مستوطنة “جلجال” في غور الأردن، و31 وحدة في مستوطنة “ألموغ” الواقعة شمالي البحر الميت، و60 وحدة في “ألون شفوت” الواقعة في “غوش عتصيون” . وقدرت حركة “السلام الآن” “الإسرائيلية” أن “الإدارة المدنيّة” التي يديرها جيش الاحتلال ناقشت يوم الأربعاء الماضي إقامة نحو 1096 وحدة، وقالت إنها مخصصة لإحدى عشرة مستوطنة، بعضها يقع في عمق الكتل الاستيطانيّة في الضفة المحتلة .
وقال جاي أنبار المتحدث باسم “الإدارة المدنيّة” إنه تمت الموافقة على الخطط الأوليّة لبناء 800 منزل جديد للمستوطنين خارج ما يسمى الكتل الاستيطانيّة .
كيف يمكن التفاوض في الوقت نفسه الذي تقوم فيه “إسرائيل” باستمرار بمصادرة واستيطان وتهويد ما تبقى من الأرض خارج السيطرة “الإسرائيليّة” الكاملة، وهي الأرض التي من المفترض أن التفاوض يجري حولها؟!!
تبادل الأراضي
ومن الأخطاء الكبرى التي ارتكبها أيضاً المفاوض الفلسطيني ولا يزال متمسكاً بها موافقته على مبدأ “تبادل الأراضي” منذ قمة “كامب ديفيد” في العام 2000 ومباحثات طابا في العام ،2001 واستمر هذا الموقف في كل المفاوضات اللاحقة رغم أن “إسرائيل” تبدأ في كل مرة المفاوضات الجديدة من نقطة الصفر، بينما يبدأ المفاوض الفلسطيني دائماً من النقطة التي انتهى إليها في المفاوضات السابقة .
لقد أصبح التنازل الفلسطيني بالموافقة على مبدأ “تبادل الأراضي” موقفاً عربياً بعد إعلان وزير الخارجيّة القطري في مايو/أيار الماضي - بعد لقاء وفد الجامعة العربيّة مع وزير الخارجيّة الأمريكي - بأن الجامعة العربيّة توافق على هذا المبدأ لتقدم بذلك دفعة عربيّة مجانيّة مسبقة على الحساب لدعم جهود كيري من دون أي مقابل “إسرائيلي” . على الأقل، إذا كان الفلسطينيون مضطرين للاشتراك بالمفاوضات فعليهم أن يجمعوا بينها وبين المقاومة والمقاطعة وملاحقة الاحتلال “الإسرائيلي” على المستويات والصعد كافة، واستكمال التوجه الأممي وإعطاء الأولويّة لإنهاء الانقسام الفلسطيني واستعادة الوحدة الوطنيّة، حتى يمكن جمع أوراق القوة والضغط الكفيلة بتغيير موازين القوى رويداً رويداً حتى يمكن إجبار “إسرائيل” على إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينيّة وإنجاز بقيّة الحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة .
هاني المصري
الخميس, 15 آب (اغسطس), 2013
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت