مفارقات العملية التفاوضية

بقلم: علي بدوان


من المفارقات العجيبة التي تؤكد عنجهية وصلافة وغطرسة دولة الاحتلال التوسعي "الإسرائيلي" أن قرارات المصادقة على مجموعة العطاءات "الإسرائيلية" الاستيطانية التهويدية الأخيرة في بعض مناطق القدس والضفة الغربية، جاءت أثناء انعقاد الجولة التفاوضية الثانية بين الطرفين الفلسطيني و"الإسرائيلي" في القدس المحتلة والتي عقدت قبل أيام، حيث نشرت وزارة الإسكان التابعة لدولة الاحتلال يوم 12/8/2013 عطاءات لبناء (1200) وحدة استيطانية موزعة على مستعمرات القدس والضفة الغربية، منها (400) وحدة استيطانية في حي جيلو، و(210) في مستعمرة جبل أبو غنيم، و(182) في مستعمرة بسغات زئيف، و(117) في مستعمرة أرئيل، بالإضافة إلى (149) في مستعمرة إفرات، و(92) في مستعمرة معاليه أدوميم، و(36) في مستعمرة بيتار عليت.
وبالطبع، إن الجرأة والوقاحة "الإسرائيلية" بالموافقة والمصادقة على عطاءات استيطانية جديدة في ظل انعقاد الجولة التفاوضية الثانية التي أُنجزت العودة إليها بعد جهد جهيد، لم تكن لتتم لولا الغطاء الأميركي الذي تتلحف به إسرائيل الصهيونية في سياساتها المُعلنة تجاه قضايا عملية التسوية (عملية التسوية ولا نقول عملية السلام) مع الطرف الفلسطيني.
لقد كانت العملية التفاوضية قد انهارت أكثر من مرة وكان آخرها كما هو معروف منذ عام 2010 واتسع نطاق انهيارها، ولا يزال، بعد استشراء سطوة اليمين السياسي بشقيه التوراتي والقومي العقائدي في "إسرائيل". وخاصة ما يتعلق بالإمعان في حركة بناء المستعمرات على أجزاء واسعة من الأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية والقدس المحتلة عام 1967، فضلًا عن إصرار إسرائيل ومعها الولايات المتحدة على تغييب المرجعية الدولية ونسفها ووضع قواعد جديدة للعملية التفاوضية تحت عنوان ما يتفق عليه الطرفان وبغياب المجتمع الدولي بكامله بما في ذلك الأمم المتحدة وحتى مجموعة الرباعية الدولية (الكفارتيت) وهي الغائب الأكبر عما يجري في مسار عملية التسوية منذ سنوات طويلة، والتي بات حضورها أمرًا شكليًّا يتم فقط عندما يراد لها أن تأتي لتصادق على ما يجري كشاهد زور لا أكثر ولا أقل. وفي وقت تَغُط فيه دول الاتحاد الأوروبي في سبات عميق دون أن تمارس ضغطًا ولو محدودًا على "إسرائيل" بسبب سياساتها الاستيطانية على الأقل. فالإعلان الأوروبي بصدد عمليات الاستيطان ليس أكثر من إعلان ورقي حتى الآن حتى ولو كان تحت عنوان التهديد بـ"خفض معوناته إلى إسرائيل في حال امتناعها عن المفاوضات"، وهو موقف ما زال لفظيًّا حتى الآن، فيما المجتمع الدولي والأمم المتحدة غائبان تمامًا، وهو ما يقتضي منهما ضرورة التحرك الفوري والعمل على وقف الانتهاكات والعمل على وقف المشاريع الاستيطانية ومصادرة أراضي الفلسطينيين، ومحاسبة سلطات الاحتلال.
إلى ذلك، والجديد في الأمر هنا، أن عملية إطلاق سراح بعض الأسرى الفلسطينيين القدامى من سجون ومعتقلات الاحتلال وعددهم (26) أسيرًا، وهو أمرٌ إيجابي ومهم، ترافق معه على الفور الإعلان "الإسرائيلي" عن عطاءات الاستيطان الجديدة، وفق معزوفة "إسرائيلية" جديدة عنوانها "تباطؤ حركة الاستيطان" للسماح لعملية المفاوضات بالاستمرار، بالرغم من أن عمليات التهويد من شأنها كما هو معروف تقليص مساحة الأرض المتاحة لإقامة دولة فلسطينية، فضلًا عن نسف إمكانية إحداث تقدم في مسار العملية السياسية التفاوضية التي تراوح في مكانها عمليًّا منذ سنوات طويلة.
إن التحدي الكبير في العملية التفاوضية والتي يُفترض بها أن تنعقد جلستها الثالثة خلال الأيام القادمة في مدينة أريحا الفلسطينية في الضفة الغربية، هو تحدٍّ بين إرادة الاحتلال وإرادة الشعب الفلسطيني، وهو ما يفترض بالطرف الفلسطيني اتخاذ موقف حقيقي ونهائي عنوانه بأنه لا إمكانية لاستمرار عملية المفاوضات دون الوقف الكامل والتام لأعمال التهويد والاستيطان، فالاستيطان والمفاوضات عمليتان لا يمكن لهما أن تكونا تحت سقف واحد، وهو ما أكدت عليه جميع القوى والفصائل الفلسطينية بما في ذلك عدد كبير من قيادات حركة فتح إضافة للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي الهيئة القيادية العليا والأولى للشعب الفلسطيني.
في هذا السياق، إن المشاهد الملموسة والتي تُشير لاختلال العملية التفاوضية، وتدل على وجود تواطؤ وتنسيق أميركي "إسرائيلي" قائم على استضعاف الطرف الفلسطيني في ظل غياب الموقف العربي الواحد، تُفَسرُ لنا قيام طاقم أمني أميركي بجولات واسعة في الضفة الغربية ومنطقة الأغوار برفقة مسؤولين وخبراء "إسرائيليين"، وقيام هذا الطاقم بتنظيم عشرات الزيارات الميدانية لمواقع ومناطق حساسة استراتيجية في الضفة الغربية، إضافة إلى العديد من الطلعات الجوية قام بها هذا الطاقم الأمني في طائرات عمودية "إسرائيلية" في سماء الضفة الغربية، وكل ذلك في إطار ترتيبات أمنية تسعى الولايات المتحدة لفرضها على طاولة المفاوضات وعلى حساب الشعب الفلسطيني.
فالتحركات المكثفة التي يقوم بها الطاقم الأمني الأميركي في فلسطين، تتم بشكل خاص مع الجانب "الإسرائيلي" دون تواصل أصلًا مع الجانب الفلسطيني، ومهمة الطاقم المذكور هي رسم "خريطة طريق أمنية" توفر لإسرائيل الصهيونية ما تسميه المصادر الأميركية "الضمانات التي ترغب وتطالب بها، وفحص بعض البدائل التي يمكن من خلالها استبدال التواجد العسكري الإسرائيلي بتواجد تكنولوجي" في ظل رفض إسرائيل أية مقترحات تقوم على نشر قوات متعددة الجنسيات في مناطق الأغوار الفاصلة بين الأردن والكيان الفلسطيني الموعود، لضمان ما تقول عنه الولايات المتحدة بالأمن في هذه المنطقة الحدودية الحساسة في سياق ما يمكن أن يتم التوصل إليه من اتفاقيات في هذا الجانب بين الطرفين تحت ضغط الإرادة الأميركية على الطرف الفلسطيني وحده دون غيره.

علي بدوان كاتب فلسطيني سوري ـ دمشق


جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت