راح ذاك الزمن الذي شكلت فيه التجربة التركية الهاماً ونموذجاً، لنظام سياسي علماني بقيادة حزب إسلامي، نجح في انتقال البلاد إلى الميدان الصناعي والتجاري وشكل أحد أقطاب المنطقة الإقليمية المتطلع إلى ريادة الخريطة السياسية في المنطقة، راح ذاك الحلم الذي راود قادة تركيا الحاليين في نقل التجربة التركية إلى المحيط العربي إيذاناً بسيطرة أنقرة على كامل المنطقة العربية بعد إخفاقها في الولوج إلى المنظومة الأوروبية "الاتحاد الأوروبي" حيث وجدت في دورها المرتقب في الإقليم كبديل وتعويض عن هذا الفشل من ناحية، وسند موضوعي للضغط لقبولها في النادي الأوروبي.
راح ذاك الزمن، الذي حاول فيه قادة تركيا الحاليون تسويق نظامهم كنظام ديمقراطي ـ علماني، بعدما فاجأ العالم بقدرته على البطش بمعارضيه، كأي نظام مستبد متغول، إثر مواجهات نظام القمع التركي مع المتظاهرين المسالمين في ميدان "تقسيم".
وراح ذاك الزمن، الذي منّت فيه القيادة التركية النفس، من أن "الربيع العربي" ما هو إلاّ جسر تعبر فيه إلى السيطرة على كامل الإقليم، الموقف من "ربيع" ليبيا وسورية ومصر وتونس لم يكن دعماً للشعوب العربية ضد الطغاة، بل شكلاً من أشكال استثمار تداعيات هذا "الربيع" لصالح طموحاتها في السيطرة وقيادة المنطقة، بعدما انخدعت، كما انخدع كثيرون، بوصول الإسلام السياسي إلى الحكم عن طريق انتخابات ديمقراطية في ظل أوضاع غير ديمقراطية، في كل من تونس ومصر تحديداً، وإذا كانت حركة الشباب "تمرد" في مصر أسقطت حكم "الإخوان"، فإن التجربة المشابهة في تونس، باتت تشكل أرقاً لطموحات أردوغان وجماعته، ليس فقط لخيبة الآمال في دور تركي للسيطرة، ولكن وهو الأهم، أن أردوغان وحزبه بات يخشى من تكرار التجربة في بلاده، إذ لم يعد صندوق الاقتراع هو الدليل الوحيد على شعبية نظام الحكم، خاصة عندما تفشل التجربة، كما حدث في مصر.
وإذ كانت التجربة التركية ناجحة بالمعايير الاقتصادية، فإن "الإسلام السياسي" تمسّك بها كعنوان يمكن بل يجب أن يتكرر، وربما كانت هذه التجربة "الخلاّقة" وراء تمنّي بعض العرب بتكرارها في الدول العربية، هذا البعض تجاهل عن قصد، تجربة حكم "الإسلام السياسي" في كل من السودان والصومال، لكي يكرس مفهوماً ناجحاً لتجربة إيجابية وتعميمها باعتبارها المقياس الذي يجب أن يؤخذ به دعماً لوصول "الإسلام السياسي" إلى الحكم.
ترجمة لتطلعات حكام تركيا بعثمانية جديدة، بدؤوا بسورية، حيث عقدوا صفقة مع بشار الأسد على جثة الأكراد، وتم تعزيز التعاون الاقتصادي بينهما إلى أبعد الحدود، وفتحت المعابر بين البلدين بتسهيلات جدية للتجارة، وبحيث يتنقل الأفراد من الجانبين بالهُويّة وليس بجواز السفر، غير أن أحداث سورية، قلبت هذه المعادلة بعدما شعرت تركيا أن "الربيع العربي" سيمنحها خياراً أفضل لطموحاتها، فبدأت بتعزيز صلتها بالمنطقة من خلال "بوابة غزة" مستغلة الحصار الإسرائيلي، فسيّرت "الأساطيل البحرية" تحت شعار كسر الحصار، في مهمة واضحة وهي دعم حكومة "حماس" في قطاع غزة، بالتوازي مع خطاب ناري ضد إسرائيل مع الإبقاء على كافة الصلات الاستخبارية والعسكرية والاقتصادية والسياحية، وبعد أن أطلقت إسرائيل النار على سفينة مرمرة قبل أن تصل إلى غزة في إطار فك الحصار، ذهب ضحية هذا الهجوم تسعة ناشطين أتراك، توتّرت العلاقات بينهما، ووضعت تركيا شروطاً لإعادة العلاقات الدبلوماسية بعد قطعها ومن بين هذه الشروط كسر وفك الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة، غير أن العلاقات عادت من دون هذا الشرط، الذي استبدل ـ فيما يبدو بوعد بزيارة أردوغان إلى غزة، غير أن هذا لم يحدث، مع أن موعد الزيارة قد تأجّل أكثر من مرة قبل أن يعزل مرسي !! وبعد سقوطه، لم يعد لتركيا علاقات جيدة في الإقليم إلاّ مع حكومة "حماس" وإسرائيل، مع تدهور دورها وتراجعه إلى حد كبير في الأزمة السورية !!
وقوف حكومة أردوغان إلى جانب "جماعة الإخوان"، أفقدها الكثير من قدرتها على تحقيق أحلامها ومشاريعها في المنطقة، بل إن هذا الموقف، ساعد على إعادة التئام المنظومة العربية من جديد، بعد تفكك وانحسار الدعم العربي المادي والمعنوي من قبل معظم الدول العربية للتحولات الديمقراطية في مصر، مثل السعودية والكويت والإمارات والأردن وفلسطين، يشكل عودة، ولو أولية، إلى التئام الموقف العربي، الذي بات أكثر تحدياً لتطلعات القوى الإقليمية، وفي طليعتها تركيا، التي لا نصير لها في هذه المنظومة، سوى قطر، والتي يعتبرها البعض، شوكة في خاصرة دول الخليج العربي، بل ذهب البعض إلى مقارنتها بإسرائيل التي بدورها شوكة في ظهر المنظومة العربية.
وإذ تتآكل الآن "جماعة الإخوان"، في مصر كما في عموم المنطقة، فإن تركيا ظهرت من خلال مواقفها إزاء هذا التآكل وكأنها مجرد "خلية نائمة" للجماعة، الأمر الذي أدى إلى عزلتها وتآكل دورها، وتركيا هي الخاسر الأكبر نتيجة لرعونة قيادتها وعدم واقعية تطلعاتها وأحلامها، وبعدما كانت تركيا بما حققته من إنجازات اقتصادية مثالاً يحتذى، باتت نموذجاً لسقوط الخيارات والمواقف، وخسارة موقعها ودورها، لن يؤدي بها لا إلى خيار الاتحاد الأوروبي ولا إلى العثمانية الجديدة!!
بقلم: هاني حبيب
نقلا عن صحيفة/الايام
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت