في مطلع كل عام دراسي جديد ، تطلُع علينا الجامعة الإسلامية في غزة بقرارات مالية جديدة ، تتراجع عنها في أعوام ، وتتمسك بها وتصر على تنفيذها في أعوام أخرى ، كما هو حاصل الآن (بداية العام 2013/2014) . فمنذ أيام قليلة طرحت الجامعة حزمة من قرارات تسهيلية . فأذِنت لطلابها بدفع الحد الأدنى من الرسوم الجامعية ، وسمحت لهم بالانتفاع من القروض المؤجلة ، وبنصف منحة (50%) للطلاب المتفوقين وذلك حسب أنظمة ولوائح الجامعة ، ووافقت على تقسيط الرسوم الفصلية . وما إن تهللت وجوه الطلاب بالبشر، وانشرحت صدور الآباء بالفرح وبخاصة طبقة الفقراء والمعوزين والطبقة المتوسطة ، حتى عبست الوجوه وغادر الانشراح تلك الصدور وحلَّ محله الغم والهم . فأُلغِيت تلك القرارات جميعها وصدر بدلا منها قرارات مغايرة ، أحدها يقضي برفع سعر الرسوم الدراسية في جميع الكليات والأقسام الدراسية . لقد جاءت هذه القرارات مخيبة للآمال ، فأوجعت كثيرا من الطلاب والأسر بما أدخلته من توتر ورفعت ضغط الدم لدى الآباء الذين يكدحون طول النهار ، والذين يحرمون أنفسهم وأزواجهم وصغارهم أبسط ملذات الحياة اليومية . ويعلم الله كم هي تلك الأسر التي تجري لاهثة من مكتب إلى مكتب من أجل الحصول على كوبونة الوكالة ، ويا بخته مَن يحصل على تموين من الوكالة ! إذ يساعده ذلك على إغاثة أبنائه ويكفل حياتهم به ، وهناك مَن يقتصد من بعض هذا التموين فيبيعه لأجل جمع القرش على القرش لتوفير القسط الجامعي والمصروفات اليومية لهذا الطالب أو لهذه الطالبة أو للاثنين معا . فأين صُنَّاع القرار في الجامعة الإسلامية من هذه الأسر الفقيرة المحتاجة إلى عون وإحسان المحسنين ؟ أم أنهم لا يحسون بآلام وأوجاع الآخرين ، ولا يشعرون بمشاعر الأسى والبؤس لدى عامة الناس . وكأني بهم قد جاءونا من بلاد " الهونولولو " ، لا يعرفون طبيعة هذا البلد ووالد وما ولد ، لا يُقَدِّرون الآثار السلبية لقراراتهم التعسفية على النفوس وعلى الفلوس ، فهي أولا : تجعل من الجامعة الإسلامية جامعة أرستقراطية لا يدخلها إلا أبناء الطبقة البرجوازية أصحاب الأملاك والعقارات والبيارات وأصحاب التجارة العامة من ذوي الأرصدة المالية في البنوك ، وبالتالي يُحرم الطالب الفقير من حقه في استكمال التعليم الجامعي ، تماما كما يحدث في أمريكا وأوروبا ذات الطابع الرأسمالي ، يعني : (اللي مامعوش ما يلزموش !!!) ، وهذا يتنافى مع المبادئ والقيم الإسلامية السمحة التي تكفل حق التعليم للجميع . وثانيا : فإنها تدفع الطالب إلى ترك هذه الجامعة التجارية ذات الأسعار الباهظة إلى جامعة أكثر استقرارا وأقل تكلفة كجامعة الأقصى مثلا – وهي الجامعة الوحيدة في بلادنا التي تستحق الاحترام والتقدير والدعم المادي والمعنوي – وفي النهاية كلها شهادة تجيز لحاملها حمل المكنسة لتنظيف الشوارع والطرقات . وثالثا : فقد تضطر الطالب إلى ترك الدراسة والبحث عن بسطة لبيع الفجل والجرجير أو التسكع في الطرقات والأسواق العامة . فأين مبادئ الإسلام في جامعة تحمل اسم الإسلام في تعريفها ، أين الرحمة بالآخرين ، بل أين الشفقة بالآخرين ، وأين اليسر على المعسرين . فإن لم تكن هذه الجامعة رحيمة شفوقة بالطالب ، وإن لم تكن مُقَدِّرة لعُسر الحال التي يعيشها شعبنا في قطاع غزة بالذات ، فعليها أن تشطب عن اسمها " الإسلامية " وتستبدل به اسما آخر يليق بكونها جامعة أرستقراطية أو جامعة رأسمالية . لأن الذي سيبقى فيها هم من أبناء الأغنياء الرأسماليين ، ومن أبناء طبقة اللوردات وذوي الدم الأزرق . فلماذا لا تنظر هذه الجامعة – وغيرها من جامعاتنا الفلسطينية – بعين الاهتمام إلى الضائقة الاقتصادية وإلى الفقر المدقع ، وإلى البطالة التي تضرب أطنابها في طول القطاع وعرضه ، بحيث يتعذَّر على الرجل إيجاد عمل أي عمل ، ومع هذا فلا تتعب الجامعة من كلمة هات ..هات ..ادفع ، هات !. ومن يتأخر عن دفع الرسوم كاملة ، يُحرم من التعليم . ولا تعرف الجامعة لغة الأقساط المريحة لذوي الدخل المحدود جداً ، وما أكثر هؤلاء في شعبنا الذي قد تصل نسبتهم إلى 95% . وأكاد أشك في مجلس أمناء الجامعة الإسلامية إن كانوا قد مروا عن الآية الكريمة وتوقفوا عندها : " وإن كان ذو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى ميسرة " آية 280 البقرة . فلماذا تُلغَى المنح وأنصاف المنح للمستحقين من الطلاب المتفوقين؟. لماذا تُلغى القروض الجامعية للطالب المحتاج الذي تستطيع الجامعة أن تلزمه بسند قانوني بسداد ما عليه من أعباء مالية مستحقة لها بعد التخرج فيها ، وبعد الحصول على عمل يمَكِّنه من ذلك ؟ . وأين الأموال التي تتدفق على الجامعات الفلسطينية الداعمة للطالب وللمسيرة التعليمية ؟ لماذا لا تنفقوا منها في أوجه الإنفاق التي جاءت من أجله . باختصار ، إن التيسير على الطالب ليس له وجود على خريطة الجامعة وإن دعم مسيرة التعليم لا مكان له في وجدان وزارتي التعليم العالي الذي سيؤول أمره إلى التعليم الواطي !. مع أن جامعات بلاد العالم العربية والإسلامية والمسيحية والبوذية والمجوسية وغيرها تعطي الطالب الفلسطيني المنحة الدراسية الكاملة أو نصفها ، وكلها تُشفق عليه ، وتنظر إليه بعين العطف والرحمة به لظروفه الخاصة ، إلا جامعاتنا الفلسطينية التي هي أحق بنا وبمساعدة أبناء شعبنا . فقد نسي أمناء الجامعة الفلسطينية قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يحث المسلمين على طلب العلم : " اطلبوا العلم ولو في الصين ". فلماذا نذهب إلى الصين وروسيا وأمريكا مادامت جامعاتنا في بلادنا وعلى بُعد مرمى حجر من مساكننا ؟!. وهل نسي أمناء الجامعة وصانعو القرار بها ما قدمته مصر المحروسة في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر – رحمه الله – الذي فتح الجامعات المصرية على مصراعيها للطلاب الفلسطينيين يتعلمون فيها بالمجان أسوة بالطلاب المصريين ، وقد يكون من بين أمناء الجامعات الفلسطينية والطباخين في مطبخ القرارات بها وبعض وزراء التعليم السابقين والحاليين مَن استفاد من نخوة عبدالناصر العربية . ولا أخالهم نسوا ما قدمته البلا د العربية الأخرى من منح دراسية مجانية لأبنائنا ، وتحَمُّل نفقات الإقامة والمعيشة فيها مثلما حدث في مصر وفي العراق وسوريا واليمن وليبيا والجزائر والمغرب ....الخ .
فمَن أولى بأبنائنا الطلاب ، ومَن أحق بمساعدتهم ومؤازرتهم ؟ هل الجامعة الإسلامية والجامعات الفلسطينية أم جامعات البلاد الأخرى كالسودان والباكستان والهند وماليزيا ؟. نحن نطالبكم فقط بخفض التسعيرة لسلعة التعليم حتى يتمكن الطالب من شرائها من السوق السوداء التجارية . اتقوا الله أيها القائمون على صنع القرار في هذا الشعب ، فلا تزيدوا عليه من الهموم أكثر مما فيه . ولا تكونوا غِلاظا جبارين على الأبناء ، ولا تَدَعوا قلوبكم تتبدل حجارة أو أشد قسوة عليهم ، فتضطروهم إلى الهجرة من وطن ليس فيه شيء عزيز يشدُّهم إليه . وكونوا رحماء بالآباء لا أشداء عليهم ، حتى لا يضطروا إلى التسول على أبواب المؤسسات الاجتماعية ، فبهم يزداد عدد الشحادين . فأنتم أحق بالرأفة بالأبناء الطلاب الذين هم أبناؤكم ، وأنتم مكلَّفون شرعا بالصبر عليهم ، وبتسهيل سبل التعليم لطلاب التعليم . فقد رغَّب الإسلام إلى مَن بيده إمكانية تمهيد الطريق لطالب العلم أن يفعل للتيسير عليه والتسهيل فيه ، حيث يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " مَن سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهَّل الله له طريقا إلى الجنة " . أَوَ لستم مسلمين يا أمناء الجامعة الإسلامية ، أم أنكم بحاجة إلى جرعة إيمانية حتى ترتقوا إلى درجة الإيمان ، وتكونوا مؤمنين حقا وصدقا ؟ . " قالت الأعراب آمنا ، قل لم تؤمنوا ، ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم " صدق الله العظيم آية 14 الحجرات . كذلك أنتم – وكثير ممن في الجامعات الفلسطينية – بحاجة عاجلة إلى كأس من عصير الوطنية ، لعلكم تهتدوا وتُرَدُّوا إلى سابق انتمائكم الوطني الفلسطيني ، وعساكم أن تعودوا إلى ما نتوقع منكم ، فتراجعوا أنفسكم وتتراجعوا عن قراراتكم ، وأن تُبقوا على التسعيرة السابقة ثمنا للساعة الدراسية ، هذا إن لم يكن في مقدوركم خفضها . لأننا نخشى أن تنتقل عدوى رفع الأسعار إلى سائر الجامعات الفلسطينبة ، وتكونوا أنتم السبَّاقين في إشعال النار في الهشيم ، حينها تكون الطامة الكبرى . وإني أحذر من انفجار لغم مكبوت في النفوس ، وصبر مضغوط في الصدور ، يجرنا إلى التردي ، فإياكم ومزيد من الظلم والقهر ، وكفى بنا داء أن يكون الموت دواء شافيا لأسقامنا ، فلعله يخرجنا من هموم نهاراتنا المعتمة ومن عذابات ليالينا المظلمة ومن ظام ذوي القربى الذين يزيدون في إذلالنا وقهرنا ، فنحن في مجملنا شعب يتيم يتسول الحياة " فأما اليتيم فلا تقهر ، وأما السائل فلا تنهر ، وأما بنعمة ربك فحدِّث " صدق الله العظيم . *
للكاتب الصحفي / عبدالحليم أبوحجاج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت