تقديم
بعد استئناف المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة انفراديّة من دون مرجعيّة ولا أسس ولا ضمانات حقيقيّة، وعلى أثر التطورات التي تشهدها مصر منذ 30 حزيران وحتى الآن وانعكاساتها على القضيّة الفلسطينيّة بصورة عامة، وعلى ملف المصالحة بصورة خاصة؛ لا بد من العمل على منع الانعكاسات السلبيّة للتطورات المصريّة والعربيّة على القضيّة الفلسطينيّة من خلال رفض واستبعاد الأفكار والسياسات المتطرفة التي تكرس الانقسام وتحوّله إلى انفصال دائم، أو تديره، وتدعيم الأفكار البناءة والمبادرات الإيجابيّة التي تساعد على إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أسس وطنيّة وديمقراطيّة، وبما يحقق شراكة سياسيّة حقيقيّة.
الأفكار والدعوات الانقساميّة التي تكرس من واقع الانقسام
§ الدعوة إلى إعلان قطاع غزة "إقليمًا متمردًا" في تساوقٍ مع دعوة إسرائيليّة مشابهة وتجاهل لما يَجمع الفلسطينيين، وكونهم شعبًا واحدًا - رغم كل خلافاتهم - يواجه عدوًا واحتلالًا يواجههم جميعًا.
§ الدعوة إلى إقامة كونفدراليّة بالرغم من عدم إمكانيّة قيامها، لأنها لا تقوم إلا بين دولتين ذواتي سيادة تمثلان شعبين مختلفين، في ظل أن الوضع الفلسطيني فيه شعب واحد تحت الاحتلال من دون أي دولة، لأن الدولة "القائمة" لا تزال قرارًا أمميًّا، ولم تتجسد على الأرض، وبالتالي لا سيادة حقيقيّة لها.
§ الدعوة إلى إدارة الانقسام عبر تنسيق متعدد الأشكال منتظم أو غير منتظم من دون أفق سياسي موازٍ؛ يركز على إعادة بناء وإصلاح منظمة التحرير، حتى تتوفر المؤسسة الواحدة والقيادة الواحدة القادرة على بلورة ميثاق وطني جديد وبرنامج جديد ينسجمان مع الخبرات المستفادة والحقائق والتطورات الجديدة، ويكفلان الحقوق والمصالح التي تمس الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده داخل الوطن المحتل وخارجه.
§ الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسيّة وتشريعيّة بمن حضر، وعقدها بغض النظر عن موافقة "حماس" أو عدمها، أو أي أطراف غيرها، وفي حالة الرفض يفكر البعض بإجراء الانتخابات مرة واحدة أو على مراحل، بحيث تعقد في الضفة الغربيّة في المرحلة الأولى، ومن ثم عند توفر الظرف المناسب تعقد في غزة، وبما أن الانتخابات ستعقد وفق التمثيل النسبي الكامل فالقائمة ستضم مرشحين من غزة، ويمكن أن يساهم الناخبون الغزيّون في الانتخابات عبر البريد الإلكتروني، ولا فرق بين كون الانتخابات ستعقد مرة واحدة أو على مراحل، فالنتيجة في كلتا الحالتين واحدة، إذا لم تعقد في ظل توافق وطني، وهي تكريس وتعميق للانقسام وأرباح صافية للاحتلال.
الدعوات السابقة تكرس الانقسام وتحوّله إلى انفصال دائم، وتتعامل مع الانتخابات كآليّة لحسم وتأجيج الصراع، وليس كأداة من أدوات الصراع مع الاحتلال، ولتجسيد الوحدة في إطار تنافسي تعددي موحد.
المبادرات التوحيديّة الهادفة إلى المضى نحو إنهاء الانقسام
هناك أفكار ودعوات ومبادرات تستحق الدراسة، ويمكن تعديلها وتطويرها والبناء عليها أو تغييرها، مثل:
§ دعوة إسماعيل هنيّة إلى إجراء انتخابات محليّة ونقابيّة وقطاعيّة، وإلى إشراك الفصائل الأخرى في حكم قطاع غزة، بالرغم من أنها يمكن أن تكون "مناورة"، إلا أنها تستحق الاختبار، ودراسة إمكانيّة التعديل والتغيير والبناء عليها، بحيث تصبح في هذه الحالة جزءًا من مرجعيّة وخطة متكاملة؛ تهدف إلى إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنيّة، وليس الاكتفاء بإدارته.
§ الدعوة إلى اللجوء إلى منظمة التحرير لحل مسألة تآكل شرعيات الرئيس والسلطة، بحيث تُمدَّد ولايّة الرئيس من خلال عقد المجلس المركزي أو اتخاذه قرارًا لذلك.
§ مبادرة حزب الشعب الداعية إلى تشكيل "مجلس تأسيسي" للدولة الفلسطينيّة، ينسجم مع القرار الأممي بالحصول على "الدولة المراقبة"، ويضم أعضاء المجلسين المركزي والتشريعي، بحيث يتولى إدارة المرحلة إلى حين إجراء انتخابات عامة.
§ السعي إلى فتح جميع المعابر المحيطة بقطاع غزة، وخصوصًا "معبر رفح"، عبر تولي "الحرس الرئاسي" المسؤوليّة عنه، كممثل للسلطة الشرعيّة المعترفُ بها من الحكم في مصر والمجتمع الدولي، مع التأكيد على أهميّة أن يتم ذلك في إطار أشمل يهدف إلى تحقيق الوحدة وليس إلى حلول جزئيّة فقط.
§ الدعوة إلى أن ينصب الجهد الفلسطيني على مسارين مترابطين متوازيين يسيران جنبًا إلى جنب:
المسار الأول: العمل من أجل تحقيق المصالحة الوطنيّة على أساس إعادة بناء وإصلاح وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير، سواء تحققت الوحدة أو على طريق تحقيقها، بما يكفل الوصول إلى وحدة التمثيل والقيادة والبرنامج، وتوحيد مؤسسات السلطة المدنيّة والأمنيّة في الضفة والقطاع، والتوافق على إجراء الانتخابات الرئاسيّة وانتخابات المجلسين التشريعي والوطني، وهذا يتطلب الوقوف أمام الاتفاقات التي وقعت والسعي لتطويرها وإزالة العراقيل والعقبات التي حالت دون تطبيقها.
المسار الثاني: العمل على بلورة سياسات وطنيّة في قضايا حياتيّة تتعلق بالترتيبات والإجراءات التي يمكن التوافق عليها بين السلطتين في الضفة والقطاع، من خلال مساهمة خبراء وسياسيين يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، وليس "فتح" و"حماس" فقط، حتى تحكم هذه السياسات الوطنيّة الوضع في غزة والضفة في ظل استمرار الانقسام وبما يساعد على إنهائه، وبما يراعي تحقيق مصالح المواطنين عامة، وتحسين آليات إدارة شؤونهم، والتخفيف من وطأة الضغوط الاقتصاديّة والمعيشيّة عليهم، وبخاصة في قطاع غزة، شريطة أن يندرج كل ذلك في إطار تشكيل "هيئة وطنيّة" متفق عليها في قطاع غزة، تتولى شؤون الحياة اليوميّة، يمكن أن تكون من أشخاص منتخبين أو غير منتخبين أو مختلطة، على أن يكون ذلك ضمن رؤية متكاملة توظف هذه الإجراءات لإنهاء الانقسام بدلًا من إدارته.
§ الدعوة إلى تفعيل عمل "لجنة الحريّات" حتى تواصل عملها، ووقف الحملات الإعلاميّة والاعتقالات ومنع السفر وإغلاق المؤسسات والفصل الوظيفي على خلفيّة سياسيّة.
§ الدعوة إلى تسجيل الناخبين لانتخابات المجلس الوطني، خصوصًا المقيمين في الشتات. فيجب إحياء هذا الملف، لأن لا خلاص من دون إعادة بناء وتوحيد المؤسسة الفلسطينيّة الجامعة التي تضم مختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، حتى تكون منظمة التحرير قولًا وفعلًا هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
§ الدعوة إلى تطبيق الاتفاقات كرزمة واحدة؛ أو تطبيقها بشكل انتقائي، مثلما حدث في "إعلان الدوحة" والجداول الزمنيّة بعده التي ركّزت على تشكيل الحكومة وإجراء الانتخابات، وأهملت الملفات الأخرى؛ أو إعادة النظر في بعض بنودها، مثل العودة إلى حكومة وحدة وطنيّة تتولاها شخصيّة وطنيّة مستقلة، وليس من قبل الرئيس، وأن تشارك في حكومة الوحدة جميع الفصائل، لا أن تكون حكومة مستقلين فقط.
لقد أثبتت التجربة منذ بدء الحوار وتوقيع الاتفاقات أنها تعاني من خلل ومن عدم وجود إرادة حقيقيّة من الطرفين المتنازعين ("فتح" و"حماس") لتطبيقها، وعدم وجود طرف ثالث ضاغط بشكل كافٍ من أجل تطبيقها، وهذه الاتفاقات بحاجة إلى بعض التغييرات والتطويرات، لأن الوحدة الوطنيّة الحقيقيّة لن تقام إلا في سياق إعادة بناء مؤسسات المنظمة والاتفاق على ميثاق وطني وبرنامج سياسي، وتوحيد مؤسسات السلطة وأجهزتها، خصوصًا الأمنيّة، مع مراعاة الخصائص المختلفة ضمن أنظمة إداريّة لا مركزيّة.
سيناريوهات ما بعد عزل مرسي واستئناف المفاوضات
السيناريو الأول: بقاء الأمور على ما هي عليه
يقوم هذا السيناريو على بقاء الأمور على ما هي عليه (أقل أو أكثر قليلًا) من دون تغييرات دراماتيكيّة، وهو سيناريو غير مرجح في ظل العواصف العاتية التي تهب في المنطقة والمحتملة، وفي ظل التطرف المتنامي الذي تشهده حكومة نتنياهو.
وفق هذدا السيناريو تستمر المفاوضات وتتعرض للأزمات الصغيرة والكبيرة، ولكنها لا تُحدِث اختراقًا، وبمجرد استئنافها تحقق أهدافًا محددة للأطراف المشتركة فيها، أهمها الحفاظ على الوضع القائم الذي شكل الحفاظ عليه نقطة تلاقٍ لمصالح السلطة الفلسطينيّة وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركيّة، كما أنها تقطع الطريق على البدائل والخيارات الأخرى التي تخشاها جميع الأطراف.
فالسلطة تريد من خلال استئناف المفاوضات - بالرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته مقابل ذلك - المحافظة على بقائها ودورها ودعمها العربي والدولي في ظل العواصف العاتية التي تهب في المنطقة انتظارًا لما سيأتي، كما تريد تجنب دفع أثمان استمرار الوضع السابق على استئناف المفاوضات، الذي يمكن أن ينجم عن اعتماد خيارات أخرى، خصوصًا خيار المجابهة.
وإسرائيل تعتبر الوضع الراهن نموذجيًّا، فهو يمكنها تحت مظلة المفاوضات من الاستمرار في تطبيق مخططاتها التوسعيّة والاستيطانيّة والعنصريّة والعدوانيّة من دون ثمن يذكر.
والولايات المتحدة الأميركيّة تستخدم المفاوضات للتغطية على ما تَعُدُّه من مخططاتٍ إزاء بلدان أخرى في المنطقة، خصوصًا سوريا، وعلى سعيها لفرض تصفية للقضيّة الفلسطينيّة، مع أن مجرد الحفاظ على الوضع الراهن يمنع تدهور الموقف إلى مجابهة فلسطينيّة – إسرائيليّة، ستزيد الموقف المتفجر في المنطقة انفجارًا، وتهدد بتحويل المشهد كله ضد الولايات المتحدة الأميركيّة وحليفتها إسرائيل، بعد أن نجحت في إظهار الصراع وكأنه صراعٌ بين العرب أنفسهم (العلمانيون ضد المتدينين، المسلمون ضد المسيحيين، أو بين العرب والأقليات التي تعيش بين ظهرانيهم، أو بين السنة والشيعة، أو بين العرب والفرس).
وفي هذا السيناريو لا يحدث تغيير دراماتيكي على ملف المصالحة، بل سيبقى هناك نوع من التعايش وإدارة للانقسام، وتتدهور الأمور حينًا من خلال زيادة حدة التراشق الإعلامي وتبادل الاتهامات وحملات الاعتقال، وتهدأ حينًا آخر من خلال تبادل الزيارات والاتصالات واستمرار وتصاعد أشكال التنسيق، التي وصلت مؤخرًا إلى حد زيارة وزراء من الضفة إلى قطاع غزة للتنسيق مع نظرائهم هناك.
إن سد الطرق كافة على "حماس" يمكن أن يدفعها لتفعيل ورقة المقاومة بشكل يؤدي إلى خلط الأوراق بتصعيد الأوضاع في قطاع غزة، أو الضفة الغربيّة، أو كلاهما معًا، خصوصًا بعد الأنباء التي تحدثت عن العودة إلى التحالف مع إيران و"حزب الله"، وعلى الجميع أن يتذكر أن القضيّة الفلسطينيّة والفلسطينيين في مأزق عام وليس "حماس" وحدها، وهم جميعًا ضعفاء أمام الاحتلال (عدوهم المشترك)، فلا يجب أن يستقووا على بعضهم ويتساهلون مع الاحتلال.
السيناريو الثاني: تقدم المفاوضات
يستند هذا السيناريو إلى احتمال التقدم في المفاوضات، لأن الوضع لا يحتمل أن يبقى على ما هو عليه بعد التطورات الحاسمة في مصر وسوريا، لا سيما أنه سيكون لها تأثيرات كبيرة على القضيّة الفلسطينيّة: على المفاوضات من جهة، وعلى ملف المصالحة من جهة أخرى.
وهذا السيناريو وارد، لأن الإدارة الأميركيّة ستحاول إقناع الحكومة الإسرائيليّة باستغلال الانقسام والضعف الفلسطيني وحالة التغييرات العاصفة في المنطقة العربيّة، حيث أبعدت هذه التغييرات الاهتمام العربي عن القضيّة الفلسطينيّة، ما يشجع فرض حل "تصفوي" للقضيّة الفلسطينيّة.
فوفق هذا السيناريو، يمكن أن تتوصل المفاوضات إلى تقدم عبر الاتفاق على خطوات، مثل: عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 18 أيلول 2000، مع زيادة رقعة الأرض التي تصنف (أ)؛ والسماح بنشاط اقتصادي واسع، بما في ذلك بعض المشاريع في المنطقة (ج)؛ واستمرار وتطوير التنسيق الأمني؛ وزيادة دور الأردن، وربما مصر؛ وقد تصل المفاوضات إلى اتفاق انتقالي مغطى بـ"إعلان مبادئ" جديد، تحت مسمى إقامة دولة ذات حدود مؤقتة مغطّاة بكونفدراليّة مع الأردن أو من دونها، ولكن ضمن الاتفاق على إطار نهائي الذي من دونه سيكون من الصعب جدًا مرور أي حل انتقالي جديد.
إن استمرار الأمر الواقع الذي أشرنا إليه في السيناريو الأول يعد استمرارًا للحل الانتقالي الذي بدأ بتوقيع اتفاق أوسلو، وكان من المفترض أن ينتهي في أيار 1999، ومُدد بصورة مفتوحة، حيث مرّت منذ أيام الذكرى العشرون على توقيعه بالأحرف الأولى، وأربعة عشر عامًا على انتهائه.
إذا حدث تقدم في المفاوضات بالتوصل أو عدم التوصل إلى اتفاق، فسيكون هناك على الأرجح اتفاق انتقالي جديد. ويمكن أن نشهد في هذه الحالة إجراء انتخابات رئاسيّة وتشريعيّة بمن حضر، أي من دون مشاركة قطاع غزة ومعارضي هذه الانتخابات في الضفة. لكن محاولة إجراء انتخابات "بمن حضر" لإضفاء "شرعيّة" على خيار التفاوض الثنائي، لا سيما إذا لاحت في الأفق بوادر التوصل إلى اتفاق انتقالي، هي عمليّة محفوفة بالمخاطر، التي تضاف إلى التحديات الرئيسيّة المتعلقة بخطر تصفية الحقوق الفلسطينيّة التاريخيّة في تقرير المصير والعودة، ليس أقلها الطعن في شرعيّة انتخابات بمشاركة جزء من، وليس كل، الفلسطينيين في الضفة، وفتح الباب أمام إضعاف الكيان التمثيلي الموحد في إطار منظمة التحرير، وبروز مزيد من الانقسامات داخلها على خلفيّة الموقف من نتائج المفاوضات، وتحفيز مشاريع إنشاء مؤسسات تمثيليّة موازية أو بديلة.
وضمن هذا السيناريو، يمكن أن تتحول دعوات من قبيل إعلان قطاع غزة "إقليمًا متمردًا" إلى سياسة رسميّة، أو أن يشهد القطاع اضطرابات داخليّة، ربما تتحول إلى انتفاضة أو اقتتال داخلي سيكون له عواقب في الضفة الغربيّة بصورة خاصة، وفي جميع أماكن تواجد الفلسطينيين عامة.
ما يجعل التدهور محتملًا إذا تحقق هذا السيناريو أنّ هناك طرفًا فلسطينيًّا، وهي "حماس"، يحكم قطاع غزة، كان في مرحلة صعود مع صعود الإسلام السياسي في المنطقة، وتحديدًا الإخوان المسلمين، لدرجة فوزها في الانتخابات في أكثر من بلد عربي، أهمها مصر، وأصبح بحكم أنه امتداد لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين يواجه أزمة شديدة ستكون لها عواقب وخيمة عليه، خصوصًا في ظل العداء المتصاعد بين "حماس" والنظام المصري الجديد، بحكم التداخلات والامتدادات الحمساويّة – الإخوانيّة، وما بين قطاع غزة وسيناء، خصوصًا لجهة المنظمات الجهاديّة السلفيّة. وكذلك الإغلاق المتكرر لمعبر رفح وتدمير الأنفاق والحملات الإعلاميّة ضد "حماس" تدل على ما ينتظرها على صعيد علاقاتها مع مصر.
فإن لم تتحرك "حماس" بصورة حاسمة لاستيعاب ما حدث واحتوائه، بحيث تُوجد مسافة بينها وبين جماعة الإخوان المسلمين، الأمر الذي يجعلها حركة فلسطينيّة أكثر من كونها جزءًا من مشروع سياسي إسلامي. هذا التحرك من "حماس" تقتضيه خصوصيّة القضيّة الفلسطينيّة وحاجتها إلى دعم الجميع في مصر والعالم العربي والأحرار في العالم. كلما أقامت "حماس" هذه المسافة بشكل أسرع الآن وليس غدًا قبل فوات الآن؛ جعلت أضرارها والأضرار الفلسطينيّة من تداعيات عزل مرسي في الحد الأدنى، وبصورة تجعل خيار التوجه إلى المصالحة مفتوحًا رغم التعقيدات الجديدة التي طرأت عليه. وفي هذه الحالة، ستساهم "حماس" في تراجع خطر تعميق الانفصال وفي تزويد فرص الوحدة؛ أما إذا إذا أصرت على تغليب كونها امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين، بدلًا من كونها جزءًا من الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، فستتزايد احتمالات هذا السيناريو، بما في ذلك التوصل إلى حل مرحلي انتقالي جديد.
إن هذا الواقع الذي تعيشه "حماس" يغري "فتح" منافسة "حماس":
أ. إما إلى التطلع إلى حسم الأمور في قطاع غزة بصورة قهريّة ومن دون مصالحة تحت اعتقاد بإمكانيّة "استنساخ" ما جرى في مصر بغزة، من دون إدراك الخصائص المميزة التي تجعل مثل هذا الاستنساخ ليس مرجحًا.
ب. أو الإقلاع بالسفينة الفلسطينيّة من دون "حماس"، لأنها لم تعد قادرة على تعطيلها مثلما كانت قبل عزل مرسي وصعود الإسلام السياسي، فهي الآن أضعف وتمر في مأزق شديد، مع أن من الخفة المبالغة بمأزق "حماس" والتقليل من مآزق الآخرين.
ت. أو مطالبة "حماس" بالقفز إلى السفينة قبل انطلاقها، ولكن مع إدراكها أنها لم تعد تمثل الأغلبيّة أو طرفًا منافسًا أو متكافئًا، وإنما كأقليّة عليها أن تخضع للأغلبيّة، وإذا لم تقتنع بذلك طوعًا فلتكن الانتخابات والاحتكام إلى الشعب هو الفيصل.
السيناريو الثالث: انهيار المفاوضات
يقوم هذا السيناريو على احتمال انهيار المفاوضات الثنائيّة قبل أو بعد مرور الشهور التسعة المتفق عليها كسقف زمني ليس نهائيًّا وقابلًا للتجديد وفق التصريحات الرسميّة الأميركيّة، وهذا السيناريو وارد جدًا، للأسباب الآتيّة:
أ. لأن أقصى ما يمكن أن تعرضه الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة أقل من الحد الأدنى الذي يمكن أن تقبله القيادة الفلسطينيّة مهما أبدت من مرونة واعتدال
ب. قيام الحكومة الإسرائيليّة بخطوات واستفزازات، عنوانها الأبرز استخدام المفاوضات كغطاء لاستمرار العدوان والاستيطان والعنصريّة، وعدم استعدادها حتى لقبول أو عرض اتفاق مرحلي انتقالي جديد، لأنها تميل بشدة إلى الاقتناع بأن الفلسطينيين والعرب معرضون للتدهور أكثر، وبالتالي لا داعي لعقد تسويات معهم الآن، لأنه يمكن فرض تسويات مناسبة لإسرائيل أكثر في المستقبل.
ت. المعارضة الفلسطينيّة المتزايدة للاستمرار في المفاوضات، وفقدان المعارضة للغطاء الشرعي في أوساط الرأي العام داخل المؤسسات الفلسطينيّة؛ الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى انهيار المفاوضات، وهذا سيؤدي إما إلى العودة إلى ما قبل استئناف المفاوضات وانتظار نجاح جهود جديدة لاستئناف المفاوضات، أو إلى اعتماد خيار جديد يتضمن استكمال التوجه إلى الأمم المتحدة وتفعيل المقاومة الشعبيّة والمقاطعة وملف المصالحة الوطنيّة.
إن اعتماد القيادة الفلسطينية لخيار جديد في حال فشل المفاوضات يمكن أن يقود إلى عقوبات وضغوطات أميركيّة إسرائيليّة على السلطة، وإلى مجابهة فلسطينيّة - إسرائيليّة يمكن أن تصل إلى انتفاضة شعبيّة أو حتى مسلحة تؤدي إلى انهيار السلطة، أو إلى تراجع دورها بشكل كبير وتقدم دور المنظمة، أو محاولة إسرائيل تنفيذ سيناريوهات أحاديّة الجانب تستند إلى فكرة ضم مساحات واسعة من الأراضي في الضفة، أو إلى تدخل دولي يفرض نوعًا من الوصايّة الدوليّة، التي تسعى لتمرير حل على الطرفين يستند إلى الاتفاقات والمفاوضات السابقة وموازين القوى القائمة المختلة، طبعًا، بشكل جوهري لصالح إسرائيل.
في هذا السيناريو يكون التصرف بمسؤوليّة من قبل "فتح" والمنظمة والسلطة عبر إعطاء "حماس" مخرجًا من خلال فتح الطريق أمام شراكة سياسيّة حقيقيّة، يمكّنها من التصرف كطرف فلسطيني أكثر من كونها امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين، وهذا يعني فتح الطريق أمام تطبيق الاتفاقات الموقّعة كرزمة واحدة كما هي، وليس كما جرى في الواقع لجهة تأجيل الملف الأمني، وتحويل إقامة إطار قيادي مؤقت له صلاحيات غير قابلة للتعطيل – كما جاء في نص اتفاق القاهرة – إلى لجنة استشاريّة لتفعيل المنظمة، بالإضافة إلى الاتفاق على برنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة.
هاني المصري*
أيلول/سبتمبر 2013
*مدير عام المركز الفلسطينيّ لأبحاث السّياسات والدّراسات الإستراتيجيّة - مسارات
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت