ـ أما النظام الفردى، اذا جرى فى ظل ضعف الأحزاب الشرعية، فغالباً يحمل الى مقاعد البرلمان إما أصحاب المال، الذين تنتفى صلات أغلبهم بالسياسة والفكر قبل المجلس وبعده اللهم الا فيما يصب لمصالحهم، وإما تيارات تسييس الدين المدعومة من قطاع مجتمعى يمثل أنصارها أو المتعاطفين معها، وبالتالى فلا يمكنها تحقيق نسبة معقولة إلا بموافقة النظام المتحكم فى آليات العملية الإنتخابية، كما كانت الحال فى انتخابات 2005 على سبيل المثال بصفقة الـ 88 بين جماعة الإخوان وبين النظام وقتها، بينما تبدو الأحزاب السياسية الشرعية الأخرى جميعها، لضعفها أو إنبطاح أغلبها وتسوله للمقاعد البرلمانية، أضيع من الأيتام على مآدب اللئام !
ـ ونظرة سريعة الى برلمانات مبارك بالنظام الفردى، خاصة برلمان 2005، فيها الدليل على سلامة منطقنا، فرغم وجود أكثر من 20 حزبا سياسياً شرعيا وقتها، سنجد التركيبة لعدد 454 مقعداً كانت موزعة كالتالى:
الحزب الوطني 330 مقعداً ، الإخوان 88 ، الوفد 7 تقلصت الى 5 لأسباب ليس هنا مجالها، حزب التجمع 1، حزب الغد1، المستقلين 17، المعينين 10 مقاعد، بينما حصل الإخوان على 17 مقعدا فى انتخابات 2000 مقابل 7 مقاعد للوفد، أقوى الأحزاب الموجودة، وكانت بالمناسبة أعلى الأرقام التى حققها من 1995الى 2010، بينما حصل بالقائمة على 37 مقعداً فى انتخابات 2012 اضافة الى مقعدين للفردى بنسبة 7.67% من اجمالى المقاعد، ليأتى فى المرتبة الثالثة مقابل 222 مقعدا للحرية والعدالة صاحب الترتيب الأول منها 115 قوائم و 107 فردى بنسبة 43.7% ، يليه فى المركز الثانى حزب النور 22.04%، بينما حصل حزب التجمع مثلاً على 3 مقاعد قوائم بنسبة 0.59%، مقابل صفر للحزب الناصرى !
وهو ما لا يعبر عن قوة حقيقية منحها نظام القوائم بقدر كونه تطبيقاً، حسب رؤيتى الشخصية، الى ما يمكن أن نصفه بفكرة "جرار الأسمنت" ! حيث يتم تفريغ الشكائر السليمة بعناية ـ أعنى قوائم الأحزاب القوية ـ بينما لا مفر من أن تتبقى على ظهر الجرار كمية من الأسمنت المتناثر ـ كسور القوائم ـ تُجمَع .. فإما كان لها دور ولو غير مؤثر فى عملية البناء، وإما أصبحت عديمة الجدوى، ذلك حسب كميتها وحجم الشوائب المختلطة.
ـ ورغم أن نظام القائمة هو الأفضل لمجتمع يؤسس للبناء الديمقراطى السليم بشرط توافر آليات حزبية مقنعة تحمل برامج قوية ومواقف سياسية ملموسة بعيداً عن محاور التاريخ أو العاطفة، أظنها غائبة جميعها فى المرحلة الحالية، فرأيى المتواضع أن الإتجاه لتفعيل نظام الفردى استثناءً للبرلمان القادم كما يتردد، ليس حلاً لمشكلة ضعف الحياة الحزبية، وانما هو محاولة للسيطرة على ساحة سياسية واهية أصلاً، ورسالة غزل غير عفيف للغرب وحوارييه تحمل فى طياتها الكثير مما قد يكون إلتفافاً على رغبة المواطن أو إدخاله مرغماً مغمض العينين الى الشرك دون أن يدرى، كما سنعرض فى السطور القادمة ..
ـ أما محاولة السيطرة، فربما كان الاتجاه للنظام الفردى هدفه إمتلاك آليات العملية السياسية استنساخا لنموذج نظام مبارك، بحيث تبقى الأحزاب على ضعفها حتى لو حصلت على مقاعد مرضية سيفوز بها أصحاب المال والنفوذ الهابطون بالباراشوتات والذين لا ينتمون فكريا لأيدولوجيات الأحزاب التى دفعت بهم تحت شعارها لنقص كوادرها، وبالتالى فلن يعنيهم تمثيل رؤى الحزب وبرامجه، إن وجدت، تحت القبة بقدر ما سيعنيهم إرضاء السلطان صاحب مفاتيح القبة تيسيراً وتسييراً لمصالحهم، وبالتالى يظهر لوبى الوطنى المنحل من جديد ولكن بتوزيع أكثر وحشية وشراسة يضمن أن يصدر القرار من المجلس بأغلبية الأصوات موزعة داخل كل التيارات وعبر كل الانتماءات، مع استكمال ديكور الصورة بتمرير مقاعد مرضية لتيارات الإسلام السياسىى كمعارضة تمنح التواجد دون تحقيق الأغلبية، لنعود سيرتنا وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا !
ـ أما رسائل الغزل، فإذا اتفقت معى أن الإستراتيجية الأمريكية تحالفت مع الإخوان من البداية، وخططت معهم لتكون 25 يناير هى الذريعة أو الستار الشعبى لتمكينهم من الدولة المصرية، ومن ثم الهيمنة على المنطقة لتسليمها للسيطرة الأوروبية حتى تتفرغ أمريكا بعدها للشرق الأقصى كما كتبنا وقتها محذرين، وأن 30 يونيو هى الثورة الحقيقية التى فرضت نفسها داخليا وخارجيا على خلاف التوقعات فكانت هزيمة شعبية قاسية لتلك الاستراتيجية اللعينة قوضت الكثير من مخططاتها للمنطقة، فعلينا الإنتباه أن الموضوع لم يبلغ نهايته، وأن أمريكا لن تستسلم وستتمسك برجالها فى الداخل حتى يتحقق الغرض المطلوب، أى تحقيق الأهداف مقابل تمكين الفصيل الموالى من إدارة الحكم أو على الأقل تواجده.
لذلك، ومع مجريات الأحداث على الأرض، والشحن الإعلامى المبالغ المتخلف، وحالة الإحتقان الحاد فى الشارع المصرى، لن يتمكن الإخوان ولا بقية تيارات الإسلام السياسى ولا رجال الوطنى، من المنافسة فى ظل نظام القوائم أو تحقيق نجاح ملموس لو سارت العملية بديمقراطية حقيقية، خاصة وحزب الإخوان مثلا لم يصدر له قرار حل، وبالتالى فليس له، إن أراد، إلا المشاركة بقوائم تحمل اسمه، كذلك بقية تيارات تسييس الدين، والشىء نفسه للأحزاب الحاملة لرجال الوطنى والمعروفة للجمهور جيداً، وبالتالى فتحقيق أكثرية مرضية أصبحت فرصهُ ضئيلة جدا بنظام القوائم فى مواجهة جمهور رافض للنموذجين، مما سيقضى على آمال هؤلاء، وداعميهم فى الغرب، فى السيطرة على البرلمان وربما دخوله من الأساس، عدا المتسربين مستقلين أو عبر أحزاب تؤجر قوائمها مفروشة، مما يعنى إقصاء النموذجين شعبياً وديمقراطياً من خلال الصندوق.
واذا كان ذلك الإقصاء غير مطلوب كما شرحنا سواء لإحكام السيطرة أو لإرضاء الغرب وتجنب أذاه من منطلق أن بعض الشر أهون من بعضُ ، فبالتالى سيكون النظام الفردى هو الحلّ الأمثل لتحقيق الهدفين، وذلك بتصعيد الصفوف الثانية من تيارات تسييس الدين وبقايا الوطنى المنحل، غير المعروف شخوصهما جماهيرياً، الى البرلمان، دون أن يعلن أحدهما عن هويته الحقيقية، بل ربما يوضع السيناريو الدعائى ليجعل من هؤلاء هم أبطال الثورة المصرية وممثليها ! والشواهد تظهر ذلك، بداية من تعيين مستشار إعلامى لرئاسة الجمهورية، ليس له مسئولية محددة أو مبررة، "تصادف !!" أنه هو من كتب خطاب مبارك العاطفى عشية ما يعرف بموقعة الجمل !، الى ضم وزراء لحكومة الببلاوى كان لهم باع بطريق أو بأخرى فى نظام مبارك أو فى كوارثه، كوزير النقل صاحب قطار العياط الأشهر، أو وزير الاستثمار وسيط مبارك لدى المنظمات اليهودية الأمريكية، أو بقية وزراء "أحزاب مدينة البط ومدرسة الهمبكيزم"، الى تصريح "المزاج العالى ماركة أمل حياتى" للسيد عمرو موسى بعد توليه رئاسة لجنة الدستور الخمسينية وقبل "الهنا بسنة" عن أن المزاج العام للمصريين يدعم السيسى رئيساً للجمهورية ! وغير ذلك مما قصرت عنه متابعة العبد لله، أضف إليه مناشدات إدارة الدولة لتيارات الإسلام السياسى بالعفو والسماح والمشاركة والتعهد بعدم الإقصاء، وبعضها، كحزب النور، يستعد لذلك بالفعل كما قد نلاحظ، خاصة بعد أن أعلن د. سعد الدين ابراهيم، عرًاب التنسيق بين الاخوان وأمريكا من قبل، عن طلب الحزب وساطته لتقديمه الى الادارة الأمريكية، قِبلة المشتاق للسلطة وكعبة العشاق للحكم !
ـ كل ذلك يجعلنا ننظر لقرار الانتخابات بالنظام الفردى على أنه ربما صيغ لإحكام السيطرة السياسية من ناحية، ومن ناحية اخرى كرسالة ترضية متعمدة الى الغرب وحوارييه أنه لا إقصاء، ومع إعتبار ان البرلمان القادم هو الأخطر فى تاريخ الدولة المصرية منذ سنة 1924، فإنما يعنى ببساطة أن النظام المؤقت قرر صياغة مستقبل الوطن وتحديد ملامحه الرئيسية وفقاً لرؤاه المنفردة التى تفتقد للرأى والمشورة منذ أتى وحتى اللحظة، وترتيبا لشىء ما بدأت ملامحه فى التشكيل بالفعل !
وإن صحّ ذلك، فأراه لعباً بنار سيطال شررها الجميع، وعبثاً سياسياً من غير سياسى فى ظل عدم وجود سياسى لأى سياسى ! ونوعاً من الإلتفاف على الوسيلة الأضمن للتعبير عن الرأى عبر الصندوق خلال هذه المرحلة الفارقة من تاريخ الوطن، أعنى نظام القوائم، حتى مع ضعف الأحزاب أو انعدام تأثيرها.
ـ وبصراحة ودون مواربة، فقد كان الأولى على الدولة المؤقتة بدلاً من ذلك الإلتفاف أن تضغط على الأحزاب المتقاعسة لإصلاح داخلها وخطابها قبل الانتخابات حتى تتوازن الساحة السياسية وتمتلىء بأكثر من تنظيم قوى يمكنه المنافسة من خلال القوائم الحزبية، فالأمر أشبه بالفلاح الذى لا يمكنه ترك أرضه بواراً دون زراعة رغم ملكيته لها، وإلا تدخلت الدولة لإرغامه على إحيائها وزراعتها لتعم الفائدة على المجتمع كله، ولو توفر ذلك ووجد البديل السياسى والتنظيمى لما استفحل نظام مبارك، ولما كنا فى حاجة للثورة على نظام الإخوان الا عبر الصندوق، ولما رأى أغلبنا أن الحل تملكه القوات المسلحة وحدها، فاستدرجت بالفعل الى ما خشيناه ونخشاه، ولكُنَّا حقنا كل تلك الدماء التى يعلم الله وحده متى سيتوقف نزيفها.
ـ الشاهد والأهم، أن الحلّ واضح لا نكلّ ولا نملّ من تكراره، إنه التنظيمات السياسية الحقيقية القوية المتنافسة التى يحجم بعضها بعضاً سياسيا إن تجاوز أو تمادى، والتى ترفض الأحزاب المدنية، دون استثناء، التحول اليها لأسباب كثيرة معروفة ليس هنا مجالها، مهما إدعت من اصلاح هو فى حقيقته مجرد زيف وهمبكة، وإن لم تتدخل الدولة المؤقتة لضبط الإيقاع وصناعة حياة سياسية سليمة بآليات حقيقية فلا أمل فى بناء وطن حلمنا كثيراً أن يكون.
تلك مشكلة مصر وذلك حلها الوحيد، حسب رؤيتى المتواضعة، وما سواه مجرد مسكنات عديمة الجدوى وتجارب لا يعلم حتى القائم بها كيف يجريها، وعبث بمستقبل أمة تتربص بها الضوارى من كل صوب واتجاه بينما أهلها نيام فى غفلة موات لن توقظهم منها إلا قارعة !
ضمير مستتر!
يقول تعالى: {قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ }يوسف10
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت