رسالة من طه حسين إلى الرئيس عباس

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

سيدي الرئيس : بداية أدعـو لك الله أن يسوقك إلى الصواب ، ويسوق الصواب إليك . وأن يصرفك عـن الشر ، ويصرف الشر عنك . وأن يلهمك أسباب الحكمة والرشاد ، وأن يختصك بالصالحين من العباد . عسى الله أن يتجاوز بك عن جهل الجاهلين من كبار المستشارين ، وينأى بك اللهُمَّ عن مجمرة المنافقين من صغار المستوزرين ، ويحفظك من فساد رأي الضالعين في أمور الدين . وبعد :
سيدي الرئيس : لو قُدِّر لك أن تجول ببصرك فيمن حواليك ، وأن تُمعن فيهم بصيرتك قبل أن يرسلوا خبائثهم إليك . لو قُدِّر لك أن تقف على رغائب الرعية ، ورأي الرعية فيك ، بعيدا عن زيف وتزويق ما ينقله المُقَرَّبون منك إليك . لو قُدِّر لك أن تطلق نفسك على سَجِيَّتها وتبصر أبا مُرَّة وأتباعه الذين يحوطونك إحاطة السوار للمعصم ، كيف ينشطون كل النشاط ويجتهدون ما وسعهم الاجتهاد في الدخول إلى دخيلتك والنفاذ إلى سريرتك ، يوسوسون بما يُبعدك عن الملأ ويُبعد الملأ عنك . لو قُدِّر لك أن تفعل كل ما ذكرت لأدركتَ الحقيقة وهي تسعى إليك ، تخبرك كم أنت رجل طيب ! ولكنك لم تفعل .

سيدي الرئيس : لا أراك غافلا عما يحسبه بعض القوم أن الزعامة سلعة تُابع وتُشترى ، أوهي متاع يحوزه مَن تجبَّر وافترى . ولا أراك تظن كما يظنون أن نجاح القيادة بكثرة الطبالين والزمارين وزخم المنشدين . ولا أحسبك تعتقد ما يعتقدون من أن إطالة زمن الحكم للحاكم مرهون بكثرة تصفيق المتفرجين وتهاليل المهرجين . ولا أخالك تنخدع بما يريدون أن يخدعوك به حين يدعون الناس إلى تجديد العهد والبيعة لك . فعجبا ! لأصحاب تلك الأصوات التي تنادي – نيابة عن الشعب – بإطالة زمانك في الحُكم . فما أظنهم يصدرونها عن حب فيك ، ولكنْ حبا لأنفسهم . وما أظنهم يرغبون في بقائك لشخصك ، ولكنْ طمعا في بقائهم بجوارك . إذ يعلمون أنهم بذهابك عن قيادة المنظمة ورئاسة السلطة يذهبون ، وتذهب ريحهم ، ويزول عنهم ما تختصهم به من مزايا وعطايا ، التي لولاك ما أصابوا منها شيئا .

سيدي الرئيس : نصحي إليك أن تحْذر رجالا حولك يحفُّـونك من كل جانب ، ليس يشغلهم إلا سعيهم عندك بالنميمة ، ومشيهم إليك بالوقيعة ، وابتغاؤهم رضاك بالوشاية والكلمة الذميمة ، فلا أراك تختلف معي في توصيفهم بسفهاء القوم ومفسديه ، الذين يبتغون إلى الحاكم كل وسيلة تُرضيه ، ويتقربون إليه من كل سبيل تُبقيه. يتنافسون فيما بينهم على أن يلفُّوه تحت عباءاتهم ، يستخلصونه لأنفسهم بما ينعم به عليهم من الخير الوفير. ويغريهم جشع المزيد من الفوز بثقته ، بأن يكيد بعضهم لبعض ، ويمكر بعضهم ببعض ، ويتكذَّب بعضهم على بعض . لا ينامون ولا تغفل لهم عيون ، ينسجون شباكهم وينصبون أفخاخهم ، ويكمنون لصيد غافل عن كمائنهم ودسائسهم . يسعـون إلى مقاصدهم وتحقيق مآربهم بما يتاح لهم من وسائل مباحة أو محظورة ، خَفِـيَّة عن العيون أو منظورة . وإنهم ليجتمعون عليك في وقت الخطر ، فيختصونك بأشنع الصور . يفسدون عليك قلوب الناس فيسيئون رأي الناس فيك . ويشحذون بغضك للناس فيبغضك الناس . ويخدعونك بما ينقلون إليك كذبا أنباء محبة الناس لك ورضاهم عنك ، ويحجبون عنك كراهية الناس لك ونفورهم منك . وقد تطوَّع المتنبي أن يخاطبك اليوم بما خاطب به سيف الدولة أمس ، فيقول :
أُعيذُها نظراتٍ منكَ صادقةً أن تحسبَ الشحْـمَ فيمَنْ شحـمُهُ وَرَمُ
وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظِرِهِ إذا اسـتـوتْ عـندكَ الأنـوارُ والظُّـلَـمُ

فليس والله – كلُّ مَنْ حففتَ بهم نفسك يخلصون لك الود ، ويصدقونك النصيحة . وليس كل مَنْ تأزَّرتَ بهم يؤازرونك ، فالمدَّثر بهم عريان . ولا أظنك – وأنت رجل سياسة – ترضى لنفسك أن تعتصم بهم ، فمَن يعتصم بهم إنما يعتصم بجدار متصدع يوشك على الانهيار ، ومَنْ يستمسك بهم فقد استمسك بالعروة الرخوة المهترئة .

سيدي الرئيس : نتمنى عليك أن تُطَهِّـر البيت الفلسطيني من أرجاس كهنة ( آمون ) الذين اصطنعتَهم لنفسك واصطنعوك لأنفسهم ، والذين يتمجلسون في كل ركن من منظمة التحرير، والذين يتمركزون في حركة التحرير، والذين يتبوأون مقاعدهم في الحكومات المتعاقبة ، والذين يتقوقعون في كثير من السفارات المتباعدة ، التي تحوَل موظفوها الكبار إلى السمسرة وتوليد المال ، وإلى تصريف عروض التجارة وإدارة الأعمال . ونتمنى عليك أن تلغي نظام التوريث الفتحاوي ، وأن تحررالشعب من قبضة الحزبية وسلاسل القبلية السياسية . وأن توقف المفاوضات ، وتُقصي كبار المفاوضين المضحوك عليهم ؛ الأولين منهم والآخِرين . وأن تُحْدِث إصلاحات فيما يحتاج إليه الناس ، فقد اشتعلت الأسعار وزاد الفقر في غياب الدينار . وارتفعت نسبة البطالة وأفلست خزينة الدولة برغم ما يصُبُّ فيها المانحون . واستحكم على غزة الحصار، واستطال حولها الجدار، وسُدَّتْ دونها المعابر والمنافذ من فوق ومن تحت الأسوار ، وتعطلت الحياة بشح الوقود وانقطاع الماء والكهرباء . وزاد عدد الباحثين عن أوطان أخرى يلجأون إليها ، ينشدون فيها العيش الكريم والكرامة المفتقدة . ونتمنى عليك أن تُحْدِثَ تغييرات في أشخاص المؤسسات والوزارات والسفارات ، ليس بتبديل الحقائب والمناصب ، ولكن بتغيير الأشخاص ، إذ ليست المنظمة ولا السلطة حكرا على فئة من الأنفار يتوارثونها ، ويتبادلون مواقعهم فيها . فقد زاد في عهدهم الاستيطان ونهب الأوطان وتهجير السكان وتهويد القدس ، والأقصى على شفا بركان ، والتنازلات اللعينة ما زالت مستمرة . وفي عهدك حدثت جريمة الانقسام ، فضاعت غـزة وما عادت إلى فلسطينها . غـزة التي أضعتها بانصرافك عن واجباتك ، وانشغالك بعبور القارات بالطائرات ، حين كثرت أسفارك وقلَّ مقامك . فطوبَى للشهداء الأبرار ، وسُحْقا لمَن تشبَّه بزعامة أبي عمار .

سيدي الرئيس : نرنو إليك بعيون دامعة ، وندعوك إلى التغيير والإصلاح ، ولكن ليس على طريقة حماس ، بأن تبادر بنقل السلطة وتسليم مقاليد الحكم والحكومة لحفدة الشهيد ياسر عرفات من شبان فتح الميامبن ، وآخرين من أبناء فلسطين الوطنيين ، الذين أوشكوا أن يشيخوا ، فهم إلى عتبات الخمسين يزحفون . وندعوك أن تُعَجِّل في خروجك وخروج حاشيتك – شِيبهم وشبابهم – من حياتنا السياسية . وبصراحة ، إننا مللنا حكمكم فينا ، ومللنا استيلاء الكهنة وأعقاب الرجال على مقدرات حياتنا ، فما أكثر المساوئ والقبائح ، وما أقل المحاسن التي لا تخلو من فضائح . فهل يدلك أحد الزاهدين الواعظين على مكان هذه الرسالة ، وهل ألتمس لديك سيدي الرئيس أن تَفْرغ ساعة من نهار أو ساعة من ليل ، لتقرأ رسالتي وتتدبر، عساني أن أُنهِضك من قعودك ، وعساك أن تنهض من رقودك ، فتصحح ما اعوج من مسارات رسمية وشعبية ، أم تراني أردد قول الله تعالى : " فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ". 78 النساء .*

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت