في بلادنا تنتشر اليوم روائح القتل بالكيماوي والغازات السامة، كما كانت من قبل بالبارود، حتى صار الساطور والسكين واحدا من الأدوات القاتلة، على أيدي بعض قوى وتيارات "الإسلام السياسي"المتطرفة والأكثر تطرفا، في وقت غابت وتغيب خرافة من يطلق عليها "قوى الاعتدال" من بين صفوف تلك "التيارات الإخوانية"، والتي كثيرا ما تغنت وأطربت ذاتها، حين كانت تزعم وتدعي أنها ممثلة "الاعتدال الإسلامي" من بين قوى "الإسلام السياسي"، وإذ بها تحمل في سلوكها وممارساتها المُعلنة والمُضمرة، كمّا هائلا من العنف، كانت تضمره في خطابها الدعوي، وها هي تعلنه اليوم في خطابها السياسي من دون لف أو دوران؛ وكل هذا من أجل سلطة مُضاعة لم يحافظوا عليها كـ "رجال سياسة"، عوضا عن كونهم "رجال دين" كذلك.
هكذا وفي فترة قصيرة جدا من زمن "الربيع العربي"، بتنا في مواجهة أنظمة تواظب على التسلط والاستبداد، والإمساك بالسلطة، إلى حد اختيارها ميتات شعوبها، حتى لم يعد الموت رحيما في أروقة أنظمة استبدادنا أو أنظمة قتلنا بالجملة؛ الموت عندنا لم يعد خيارا أو رغبة ذاتية أو فردية، الموت عندنا "فرض واجب" من قبل السلطة؛ السلطة السياسية التي تحكمنا أو تقتلنا؛ لها الخيار في ذلك، والسلطة الأهلية ذات المنشأ والطابع والمنزع الديني، التي تمارس حكمها فينا قتلا إجراميا، طالما نحن لا نخضع ولا نركع لها، أو نوافقها ونبصم لها على كل ما أوّلت وتؤوّل، وقوّلت وتقوّل من شريعة أو شرائع خاصة بها، وبفقهائها ومفتيها الظلاميين، ومجرميها من طلاب السلطة والتماثل المطلق.
لم يعد الجهاد المعاصر لـ "لإسلام السياسي" الأممي، ضيق الأفق، "فرض عين"، صار ذاك الجهاد "فقأ عين" بل أكثر من ممارسة لعنف إجرامي، لا يتوانى عن الذهاب نحو الأقاصي، في تدمير وتحطيم كل الأواني التي تساعد على إقامة سلطة غير السلطة التي ابتغتها وتبتغيها قوى "الإسلام السياسي"، ملاذا أخيرا و"قياميا" لسلطتها "الإلهية"؛ وفي هذا لا ولم ولن تختلف منازع سلطويو السياسة والمجتمع والاقتصاد، عن منازع أصحاب التفجيرات الإجرامية في شوارع المدن العربية، عن منازع أصحاب الأسلحة "القيامية" الكيماوية والجرثومية وغيرها من أسلحة غير تقليدية، حتى أننا أصبحنا في مواجهة صراعات ومنازعات غير تقليدية، "البطل الجهادي" هو من يقتل أكثر من الناس، هو من يفني النبت والزرع والأرواح من على وجه بعض البسيطة، في هذه الجغرافيا العربية المبتلاة، بأرباب الكيماوي من أجل البقاء والاحتفاظ بالسلطة، سلطة ابتعاث "الآلهة المخلدون" كي يحكموا فينا ويتحكموا حتى بميتات أفراد وجماعات شعوبهم ومجتمعاتهم، من مواطني "الخديعة الكبرى" الذين صدقوا ويصدقون أن أنظمة كهذه يمكن أن تتزحزح عن السلطة، بصندوق اقتراع أو غيره من أساليب كفاح شعبي أو نخبوي، أو ثوري أو إلخ من أساليب، لم تعد مضمونة للإطاحة بأنظمة القتل والاستبداد الإجرامي.
لهذا لم تعد السلطة عندنا تسقط بالتقادم، أو بالضربات الترجيحية، ولا حتى بالضربات القاضية، طالما استمرت في توريثها وانتقاليتها وتلونها الحربائي، وانتقالها من مركز متنفذ إلى آخر أكثر تنفذا، المهم استمرار وتواصل السلطة و"أربابها المخلدين"، أسيادا للسياسة والاقتصاد والمجتمع، وأسيادا لـ "دولة" لا تحول أو تزول، طالما إن "سلطة الأبد" حاكمة لنا ومتحكمة بنا، فما ضير أن يستخدم الكيماوي والغازات السامة ضد من يُزعم إنهم ليسوا من شعبنا، وما ضير أن يجري تفتيت أجساد من يُزعم أنهم ليسوا من ملتنا أو طائفتنا أو مذهبنا، وما ضير أن يتغول الاستبداد السياسي الحاكم في مواجهة من يجري اعتبارهم "عبيد السلطة"؟!. ولهذا يجري اقتسام الناس حصصا ومغانم، كما يجري اقتسام الدولة والمجتمع وحتى الاقتصاد الريعي، بات هو الآخر يؤسس لزبائنية جديدة؛ عمادها قيامة التعصب الأعمى للسلطة ولـ "أربابها المخلدين".
هكذا نحن هنا في حضرة منطق من تغول الاستبداد، على اختلاف سماته وتوصيفاته وأطياف أصحابه، فكما هو منطق أصحاب الاستبداد السياسي، كذلك يصدر منطق بعض قوى "الإسلام السياسي" من ذات المنطلق، وهو ذاته منطق القوى التي تحاول تفجير المجتمع والدولة في بعض بلداننا؛ جوهر هذا المنطق يقول بالسلطة: نحن السلطة شئتم أم أبيتم، نحكمكم أو نقتلكم، ولا خيار لكم في ميتاتكم، نحن نميتكم بالذي هو "أرحم" لكم، أو بما هو أجدى لنا ولبقاء سلطتنا سيدة الأسياد في هذه البلاد، فلا تعاندونا أيها العباد (أو بالأحرى العبيد) اصمتوا واخضعوا كي نحكمكم، وإلا فالموت بانتظاركم كما أردناه لكم: "موتا رحيما" بالكيماوي والغازات السامة، أو "موتا فظيعا" بتفتيت أجسادكم، أو "موتا بطيئا" باستشراء السلطة فيكم، وقتلكم بها، أي بالسلطة؛ وبالسياسة التي صارت لعبتنا الأثيرة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت