القواقع البشرية والتكييف السياسي

بقلم: د.عصام مرتجى


خلف القواقع المتحجرة والمتصلبة تختبيء الأنسجة الرخوة والهشة.
تلك هي سنة الله في خلقه، بدءا من الخلايا العصبية الرقيقة الهشة المختبئة خلف الجمجمة والفقرات العظمية المتحجرة الصلبة ... إلى ملفات المعلومات السرية المختبئة خلف جدران الحماية المستعصية عسكريا أو إلكترونيا. فأصغر ميكروب إن إجتاز خطوط المناعة و استطاع الوصول للخلايا الهشة دمرها بسرعة .... وأصغر هكر إن إستطاع إجتياز جدران الحماية صارت المعلومات تتطاير من صفحة للصفحة ومن إذاعة لإذاعة ... وانهارت الهشاشة المختبئة خلف القواقع !!
والكائن الرخوي .. الهش ... لو خرج من قوقعته لافترسته قسوة البيئة والطبيعة المحيطة في لحظاتٍ خاطفة !!

القوقعة ... سواء بنيوية أو فكرية ...هي شكل من أشكال التكييف. والتكييف من أجل البقاء ميزة منحها الله للأحياء للتغلب على قساوة البيئة المحيطة. وللتكييف أشكال وألوان يعرفه أهل علم الاحياء ... وكذلك يعرفه جيدا أهل السياسة والصحافة !!

التكييف له صور مختلفة ومتباينة وفقا للعوالم المختلفة التي خلقها الله ... وناموسها واحد : " تغيير ملامحك وتطويع ذاتك من أجل البقاء".

أن تغيير لونك وفقا للطقس وللمناخ كي تخدع من يريد افتراسك .... كما تغيير الأحياء جلدها للتتغلب على الطبيعة والمناخ ! وأن تغيير ثوبك كي تحتمي من تغييرات الطبيعة التي تحاصرك .... وكأن تغيير سقفك كي تحتمي من تقلبات المجهول في السماء التي تظلك ... وأن تطوع النصوص لتفكيرك الجديد كي لا تكون سبب إنقراضك وإفتراسك !!

ومن هنا نجد السياسين يفهمون التكييف على أنه دهاء وحنكة ودبلوماسية الموقف...
هذا قد يجيدوه كل سياسي الدنيا إلا أهل عروبتنا ... كما حدث للقذافي وللأسد بان سلموا مخالبهم للغرب وقبلوا الإنضمام لحظيرة الدواجن كنوع من التكييف مع الواقع الجديد...!! لكنهم نسوا ان الدواجن تُعلف للذبح وليس للبقاء ... ولأنهم اعتقدوا انهم نسور وصقور .... لم يفهموا بأن النسور والصقور لم تخلق للقصور... ومن يسكنها يكن في قفص للتسلية ومتعة النظر !!

و للتكييف عند المتدينين فقه آخر ... فهم يفهمونه على أنه إجتهاد وفقه جديد لواقع جديد وقراءة مغايرة للنص وفقا للواقع ...

ويحضرني هنا قصة لزميل كان يجد نفسه بالزي الباكستاني مع عمامته واللحية المسدلة على قبضة القلب .... وجاء صديق له فداعب عمامته البيضاء الناصعة ... فانتفض مذعورا وصاح به "ويحك ... هذا دين ... وعند الدين تسقط الصداقات ولا تسقط العمامة" .... وفيما بعد ... لما تقدم صاحبنا لوظيفة مرمومقة لا يناسبها العمامة ولا الثوب الباكستاني .... ساعده المجتهدون في النصوص "والمحفوظات" لأن يستبدلها بكرافة وبدلة سموكينج .... (مع أنهم كانوا ينظرون لمن يلبس الكرافة بأنه يحمل رمز الحروب الصليبية في عنقه )... والتكييف كان قد بلغ منه مبلغا ... حتى أني لما رأيته بعد سنوات وجدت لكنته تكييفت بشكل هجين .... فترى "القاف" التي كانت مفخخة بالبلاغة والصلابة المنحدرة من الشرق المفعم بالبداوة ... صارت "همزةً" بنكهة لبنانية ... تشبه لون "الكاكي" بصور الموديل لثياب الجندية الذي ترتديه هيفاء وهبي أوأليسا وهما يستصرخا أنوثتهما الكامنة من خلف ثياب الجندية !!!

حقاً ... إن التكييف يفعل فعله في الكائنات الحية وفي الناس وفي تفكيرهم ... لكنه وبكل تأكيد .. يعجز عن تغيير الثوار أو تغيير مبادئهم وفكرهم العذري ... فأصحاب المباديء ذوي جذور نقية وتربة عذراء ... لم تغتصب ولم تتلوث.!

فالثوار لهم نهج مختلف مع الحياة .... الثوار كالأنبياء جائوا لتغيير الواقع وتطويع البيئة المحيطة لعقائدهم ومبادئهم .... الثوار لا يعرفون القواقع ...ولكن يعرفون الخنادق التي يكسرون منها القواقع ... الثوار يملكون صلابة الداخل رغم هشاشة الواقع والمحيط ... الثوار يمتلكون صلابة الروح رغم وهن الجسد ووهن أقاربه....

الثوار يموتون بالثياب التي بدأوا بها مشوارهم فلا يخلعون ثياب المعركة والقتال ولا يلقون سلاح التغيير حتى يحدث التغيير المنشود .... فالثوار يمكن أن يتم إغتيالهم من البيئة المتخاذلة والمتآمرة .... لكنهم يبقون أحياء في ترابهم يقضون مضاجع الخونة .... لأن الثوار مدرسة لا تموت .... لذلك لا نستغرب حين نجد الهجمة المسعورة على الشهيد القائد ياسر عرفات وهو مسجى في ضريحه .... لأن أعداء القضية الفلسطينية يعرفون أنهم إغتالوا الزعيم عرفات ... لكنه لم يمت ... لأنه عرفات هو القضية... والقضية لا تموت !

أما ابطال التكييف والنفاق السياسي .... فيخلعون كل شيء حتى جلدهم ليتكييفوا مع الواقع الذي جاء يخلعهم من قواقعهم .... حتى في نفاق الطبيعة كانت فاشلين !!!

وااااأسفاه .... حتى في فن التكييف كانت الحيوانات البرية أكثر إلهاما وذكائا من العرب العاربة !!!

مشكلة التغييرات التي جاءت مع الخريف العربي الحالي أنها لم تكن روحها ثورية وإنما جائت لتتكيف مع الواقع العالمي الجديد .... لم تكن ثورات ولكن كانت قواقع جديدة ....

مشكلتنا مستمرة لأننا لا نتخلص من القوقعة ولكن نخرج من قوقعة إلى قوقعة أخرى كشكل من أشكال التكييف ... لأن الهشاشة تسكننا من الداخل .... ولا نحاول أن كسر القوقعة لنتتحرر من وهم الهشاشة. لذلك سنبقى سجناء القواقع الفكرية والسياسية لأن الهشاشة في النسيج البنيوي للتفكيير وللسياسية التي نتمذهب بهما.

غزة_ 24/9/2103

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت