قال لي صديقي ... أريد أن أرحل،

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي


قال لي صديقي ... أريد أن أرحل،
أريد أن أهاجر بعيداً عن بلادي،
لا أريد أوطاني، لم أعد أطيقها،
لا رغبة لي في العيش فيها، ولا في التضحية من أجلها،
أصبحت لا أجد نفسي فيها، ولا أعدها لي وطناً،
ففيه أنا أجلد، وعلى أرضه أقتل،
وفي أقبية سجونه يرزح أخي، وفيها مات أبي،
آلافٌ من شعبي قد زجوا فيها، وطوابيرٌ من أهلي ينتظرون دورهم، ويستعدون لمصيرهم،
نحن في بلادنا غرباء، وعلى أرضنا أجانب، لا حقوق لنا ولا امتيازات،
قد سرق أرضنا بعض أهلنا، واستباحوا خيراتها، وما أفاء الله علينا،  
جعلوا منا متسولين، وباعةً متجولين، وأصحاب بسطاتٍ في الشوارع مبسطين،
مشغولين بالجري وراء قوت يومنا الذي لا ندركه،
أطفالنا في الشوارع، وبيوتنا تطل على السماء،
بلا أسوار ولا جدران، وبلا أثات ولا حيطان،
لا ماء فيها ينظفها، ولا كهرباء تدخلها فتنير عتمتها،
شاهت نفوسنا، وساءت أحوالنا، ولم يعد لنا في بلادنا أمل،
فلم يبق لنا فيها إلا ذكرى الألم، واحساس الفقد، والجرح الذي لا يندمل،
قال لي صديقي سأرحل، سأهاجر إلى أوطانٍ لا أعرفها،
سأبيع بقايا بيتي، وخاتم زواجي، والقرط الذي خبأته أمي لي سنيناً،
سأدفع لمن سيمنحني حريتي وكرامتي كل ما أملك من مال،
سأشتري بهجرتي كرامتي كإنسان، وسأنال حقوقي مثل باقي البشر،
سيصبح عندي بطاقة هوية شخصية، وجواز سفرٍ محترم،
قلت له أما تسمع الأخبار وما تنقله وسائل الأبناء،
فقد غرق لنا أحبةٌ، ومات لنا جيران، وفقدنا أعزةً وخلاناً،
فلا تغامر أخي بحياتك، ولا تلقي بنفسك إلى التهلكة،
لا تسبب لأمك ألماً، ولأهل بيتك حرماناً، وتكون سبباً في ضياعهم،
قال لي صديقي بيأس من يرى الموت يحيطه من كل مكان، ويترصده ويتبعه حيث كان،
يا صديق طفولتي ورفيق معاناتي، أنا مهاجرٌ لا محالة، راحلٌ لأعيش، مفارقٌ للوطن الذي لا يريدني،
هناك غيرنا قد سبقوا وحققوا ما تمنوا،
ألا تراهم مقدرين ومحترمين، لهم كلمة مسموعة، ورأيٌ رشيد، وكرامةٌ محفوظة، وحقوقٌ مصانةٌ مكفولة،
ألا ترى أسمالهم جميلة، وهيئاتهم حلوة، وشخصياتهم وسيمة،
ألا تراهم يرطنون بغير لسانننا فيحترمون، ويحملون غير هويتنا فيقدرون،
إنهم الذين نعرفهم، والذين كانوا بيننا، ويعانون مثلنا،
فهم الخباز والحداد، والعاطل والعامل، والدهان والنجار، والبقال والباعة المتجولون،
إنهم الطلاب والأساتذة، والموظفون والتجار والمتعلمون، والأطباء والمحامون والمهندسون،
إنهم كل شعبنا يا صديقي، كلهم قد صاروا هناك،
غادروا أرض الوطن ولكنهم أسكنوه نفوسهم، وحفظوه عهداً في قلوبهم،
إنهم اليوم في بلادٍ جديدة يحبرون، وفي النعم والخيرات يتمتعون،
قد أصبح لهم دولة ووطن، وعندهم هوية وعلم،
ولهم من ينطق باسمهم ويعبر عنهم، ويتابع شؤونهم، ويهتم لأمرهم،
فلا جوع في بلادهم، ولا عري بينهم، ولا احساس بالغربة عندهم،
إني راحلٌ غداً، ومهاجرٌ لا محالة، مفارقٌ هذه الأرض التي أصبحت أشواكها تؤذي،
أستودعك يا صديقي هويتي المفقودة، وكرامتي المهدورة، وحقي الضائع المستباح،
ارفع رأسك أخي وامضِ معي، وارحل ولا تكن من الهالكين،
يا صديقي اركب معنا، وانجُ بنفسك، واكسب يومك وغدك ومستقبلك،
فأن تموت حراً ساعياً نحو الكرامة، خيرٌ لك من أن تدوسك أقدام الجوع والفقر والحرمان،
أن تغرق في بحارٍ بعيدة، خيرٌ لك من أن تطويك سجونُ وزنازينُ أنظمةٍ قديمةٍ،
يا صديقي هناك تلوح هويتي، وهناك أرى كرامتي، وهناك يحترم الإنسان، وفيها أيضاً يقدر الحيوان،