كان المؤتمر الذي نظّمته مؤسسة "الدراسات الفلسطينيّة" بمناسبة مرور عشرين عامًا على "اتفاق أوسلو" مفيدًا ومهمًا، ولكنه لم يتقدم كثيرًا في طريق الإجابة عن سؤال "ما العمل؟". لا يعني ذلك أنه أتمّ المطلوب منه في تشخيص الواقع الفلسطيني، ولكنه قطع شوطًا في التشخيص أطول من استشراف المستقبل واقتراح الحلول.
هناك اعتقادٌ شائعٌ عند الفلسطينيين، خصوصًا عند النخبة، بأن تشخيص "المرض" قد تمّ، ولا ينقصه سوى وصف العلاج الناجع. التشخيص لا يزال قاصرًا ومختلفًا عليه بشدة، بالرغم من مرور زمن طويل، وما شهده من كوارث وحروب وتضحيات ومؤتمرات ودراسات وحوارات، فالتشخيص الصائب للواقع الملموس يقدم نصف العلاج المطلوب، ولو كان التشخيص سليمًا ومتفقًا عليه؛ لما أقدمت القيادة الفلسطينيّة على استئناف المفاوضات بصورة أسوأ مما حدث من قبل، بالرغم من أن المفاوضات أوصلتنا إلى ما نحن فيه من كارثة بكل المعاني.
وإذا سلمنا جدلًا أن البيئة الفلسطينيّة والعربيّة والإقليميّة والدوليّة السائدة عشيّة توقيع "أوسلو" جعلت التوقيع عليه تحصيلًا حاصلًا، وهذا غير صحيح، فلقد أثبت المؤتمر أن "أوسلو" لم يكن ممرًا إجباريًا، بل كان بالإمكان تجنبه، أو عقد اتفاق أفضل منه أو أقل سوءًا، ويمكن مراجعة أوراق المؤتمر ومداخلاته التي تبرهن ذلك.
إن البيئة الحاليّة أفضل من سابقتها، بدليل استمرار وتعاظم حركة التضامن الدوليّة مع القضيّة الفلسطينيّة، وبداية عودة التعدديّة القطبيّة العالميّة المترافقة مع التراجع النسبي للدور الأميركي، وتراجع مكانة إسرائيل في الإستراتيجيّة الأميركيّة، كما أن المتغيرات العربيّة التي لا تزال عاصفة بالرغم من أنها أضرّت بالقضيّة الفلسطينيّة على المستوى المباشر، إلا أنها تحمل بداية صيرورة تاريخيّة، بدأ فيها المواطن العربي يلعب دورًا متزايدًا بعد أن أدرك أنه قادرٌ على التغيير، وهذا سيصب في نهاية الأمر في صالح القضيّة الفلسطينيّة، لأن تعبير الشعوب العربيّة عن إرادتها الحرة وإقامة أنظمة ديمقراطيّة تتمتع بالكرامة والاستقلال الوطني لا بد وأن ينعكس إيجابًا على الفلسطينيين، الذين ترتبط قضيتهم بالقضايا العربيّة. فإسرائيل ليست مجرد دولة أقيمت على حساب الفلسطينيين فحسب، بل هي رأس حربة المشروع الاستعماري الرامي إلى إبقاء المنطقة أسيرة التبعيّة والتخلف والتجزئة والاستبداد.
كل هذه المتغيرات بدأت تعكس نفسها من خلال بوادر "يالطة" جديدة (كما يظهر بالاتفاق الأميركي – الروسي حول الكيماوي السوري، والتقارب الأميركي – الإيراني) ترمي إلى تقسيم العالم والمنطقة من جديد، وإذا لم يكن الفلسطينيون طرفًا فاعلًا مبادرًا يدرك أهميّة دوره وقيمة التحرك الشعبي الجماعي وتأثيره العظيم، ستُرسم خارطة العالم الجديدة على حسابهم.
هناك نقص في التشخيص، لأن الفلسطينيين لو أجمعوا على رفض "اتفاق أوسلو" أو تجاوزه لتصرفوا بطريقة مغايرة عن تلك التي يتصرفون بها حاليًا، ليس لأن الاتفاق لم يحقق أهدافهم فقط ، بل حقق أهداف اليمين الإسرائيلي، بالرغم من أن "أوسلو" وُقِّعَ بأيدٍ إسرائيليّة يساريّة، فذهب اليسار وبقي اليمين متمسكًا بـ"أوسلو"، لأنه يعفيه من تقديم حل نهائي، ويمكّنه من مواصلة طريقه الاستعماريّ الإجلائيّ الاستيطانيّ الاحتلاليّ العنصريّ، فـ"أوسلو" لا يزال حيًّا يرزق، لأن إسرائيل تريده كذلك؛ لضمان استمرار الالتزامات الفلسطينيّة فيه، أمّا الالتزامات الإسرائيليّة فقد تم تجاوز معظمها منذ زمن بعيد.
إن الفلسطينيين في غالبيتهم يلعنون "أوسلو"، ولكنهم يعيشون في كنفه ويخشون انهياره، والانقسام وأوساط منهم تدفع بسياساتها عمليًا باتجاه تجديده أو تطويره أو حتى استمراره، بالرغم من حصولنا على الدولة المراقبة، وبعد المتغيرات العربيّة والإقليميّة والدوليّة؛ بحجة أنه البديل الوحيد المتاح.
"لا يوجد بديل"، هذه العبارة تطلق في وجه كل من ينادي بالبديل، لذا نجد أن معظم معارضي "أوسلو" معارضتهم له لفظيّة، وينتهون بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى تأييد استمراره، "لأن ليس بالإمكان أبدع مما كان"، ولأن البديل المطلوب كما يروّجون هو حل السلطة والعودة إلى الكفاح بكل أشكاله، وهذا غير متاح، إن لم يكن مستحيلًا، الأمر الذي يمدّ في عمر "أوسلو".
هذا المنطق يضع الفلسطيني بين حدين متناقضين: فإما حل السلطة والمقاومة المسلحة والعودة إلى الميثاق والجبهة الوطنيّة التي كانت تجسدها منظمة التحرير، أو الحفاظ على السلطة وشربها حتى الثمالة، والوفاء بالالتزامات المجحفة الأمنيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، بما في ذلك استئناف المفاوضات بالصورة التي تمت، وأن أقصى ما يمكن تحقيقه تحسين أداء السلطة، والوفاء بالتزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني، مثلما أوفت بالتزاماتها إزاء إسرائيل والمجتمع الدولي، وهذا مستحيل لأنه جمعٌ بين التزاماتٍ متناقضةٍ.
لا غرابةَ في ذلك، فهناك من يعزو فشل "أوسلو" إلى سوء الأداء الفلسطيني، سواء لجهة إدارة القيادة والمفاوض الفلسطيني، أو في ما يتعلق بسعي "حماس" والجهاد الإسلامي لإفشال "أوسلو" بالعمليات الاستشهاديّة وغيرها، قبل أن يعزوه لتطرف وعدوانيّة وعنصريّة إسرائيل، وعدم قبول المشروع الصهيوني لعقد تسوية، مع أن الجانب الفلسطيني قدم قسطه من التنازلات كـ"عربون" لمجرد قبوله شريكًا قبل توفر استعداد إسرائيل لعقدها، أما إسرائيل فلا تزال ترفض تقديم ما عليها وتزداد تطرفًا وتعنتًا.
إذا كنا ما نعيش فيه هو الكارثة بعينها، وهو كذلك، فلا مجال للتردد بالتفكير حول ضرورة وإلحاح العمل من أجل تجاوز الواقع الذي أدى إلى جعل "اتفاق أوسلو" هو الخيار الوحيد المتاح.
صحيح أن الحقائق السياسيّة وموازين القوى والممكن وغير الممكن تتحكم بقدرتنا على التغيير ووتائره ومراحله، ولكن التغيير لما هو قائم لا يجب أن يكون مطروحًا للنقاش أو التساؤل. فالصراع طويل ولا حل وطنيًّا على الأبواب، لا من خلال دولة فلسطينيّة على حدود 1967 ولا دولة واحدة على فلسطين الانتدابيّة.
السؤال هو: هل الاستمرار في طريق "أوسلو" أو تجاوزه يمكّن الفلسطينيين من المبادرة والفعل والاعتراف بهم كلاعب أولًا، ثم السير بهم على طريق خلاصهم الوطني ثانيًا؟
الفلسطينيون مختلفون حتى في الاجابة عن هذا السؤال. إن الآراء الراجحة في "مؤتمر الدراسات" الرافضة لـ"أوسلو" لا يجب أن تحجب بقيّة الحقيقة الموجودة في الواقع، الذي يشير إلى استمرار الخلاف العميق حول الطريق الذي يجب اتباعه. صحيح أن هذا الخلاف لم يتبلور إلى حد رسم إستراتيجيات واضحة مختلفة تمامًا عن بعضها، بحيث تميز نفسها سياسةً وممارسةً حتى تختبر صحتها وقدرتها على أرض الواقع، وهذه مهمة مطروحة لإنجازها على المؤسسات الوطنيّة والقوى والقيادات، ويمكن أن تساهم في الوصول إليها النخبة ومراكز التفكير والأبحاث.
إذا لم يكن البديل متوفرًا فيجب بناؤه خطوة خطوة، لأن من ليس له بديل عليه أن يقبل ما يعرض عليه، أي أن يستسلم.
يمكن للضحيّة أن تسجن أو تقتل أو تشرد، ولكن لا شيء يبرر إقدامها على الانتحار بنفسها. إن الاعتراف الذهبي بإسرائيل من دون اعترافها بأي حق من الحقوق الفلسطينيّة، والالتزام بالتخلي عن "الإرهاب" ونبذه، واعتماد المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة انفراديّة هو الانتحار السياسي بعينه، ولا يمكن أن يكون ذلك مقبولًا بأي حال من الأحوال.
البديل عن الانتحار السياسي لا يكون بالمغامرة والقفز عن الواقع والدعوة إلى العودة إلى نقطة الصفر، إلى ما كنا فيه، لأننا كنا هناك ووصلنا إلى ما نحن فيه، وليس العلاج أن نعيد إنتاج ما أقدمنا عليه سابقًا. فالبديل يجب أن يأخذ الحقائق والموازين والمتغيرات والخبرات والظروف الجديدة بالحسبان، فما كان صالحًا ومناسبًا قبل حوالي خمسين عامًا لا يمكن أن يكون صالحًا الآن، وتغيير الواقع يبدأ بالاعتراف به والتعامل معه من أجل تغييره، ولكن التعامل معه من دون العمل على تغييره يعني الاستسلام الكامل له.
لا يمكن أن نعود إلى دوامة الوحدة أم التحرير، أو استقلال القرار الوطني الفلسطيني أم الاندماج القومي، أو إلى "الإسلام هو الحل" وفلسطين وقف إسلامي وطمس الأبعاد الوطنيّة والعربيّة والتحرريّة والعالميّة، فالخبرة المستفادة توجب الجمع الخلّاق لكل هذه الأبعاد بتوازن دقيق يستند إلى المعطيات والحقائق.
لا يمكن اختيار إما تبرير ما هو قائم والدعوة إلى التعايش الأبدي معه أو التبشير اللفظي بما يجب أن يكون من دون توفير القدرة على تحقيقه، لماذا لا يتم الجمع ما بين الممكن والمطلوب؟ بحيث يؤدي تحقيق الممكن إلى اقتراب تحقيق المطلوب.
يمكن إعادة بناء الحركة الوطنيّة والتمثيل والمنظمة على أساس الواقع الجديد والخبرة المستفادة، واقع تبلور التجمعات الفلسطينيّة ذات الخصائص المميزة لكل منها من دون إنكار ما يجمعها.
يمكن الانطلاق من واقع السلطة القائم لا من أجل تكريسه أو تحسينه فقط، بل من أجل تغييره، بحيث يجري العمل على إعادة النظر في شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها بالتدريج، لأنه لا يمكن الوفاء بين التزامات السلطة تجاه إسرائيل والتزاماتها إزاء شعبها، مع الاستعداد لكل الاحتمالات، بما في ذلك حلها إذا أصبح ذلك ضروريًا، أو انهيارها في غمرة المواجهة التي ستندلع بالضرورة في حال قيام الفلسطينيين باعتماد خيارات وبدائل جديدة.
وإذا لم تكن الدولة على مرمى حجر، فلماذا لا يستبدل تقزيم القضيّة الفلسطينيّة عبر خطاب الدولة بطرح خطاب الحقوق، من دون أن نسارع إلى التخلي عن هدف إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينيّة.
لماذا لا نذهب بـ"أوسلو" إلى نهايته، ليس من خلال تكريسه، وإنما من خلال الدعوة إلى استكمال التوجه الفلسطيني في الأمم المتحدة، وإعطاء الأولويّة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة واعتماد المقاومة الشعبيّة والمقاطعة، مع الدعوة إلى مفاوضات شاملة جماعيّة متعددة الأطراف، تستند إلى القانون الدولي وقرارات الامم المتحدة بمجملها، على أن تعقد في إطار مؤتمر دولي كامل الصلاحيات فاعل ومستمر ضمن الاتفاق على جدول زمني قصير وآليّة تطبيق ملزمة.
لا وقت لدينا لإضاعته، فالأرض والإنسان والحقوق والمقدسات في ضياع، والبديل يكون بالحفاظ على ما لدينا، على صمودنا على الأرض، وتقليل الخسائر والأضرار تمهيدًا للتقدم في طريق الخلاص الوطني.