طالبت المعارضة التونسية منذ أسبوعين تقريبا باستقالة وزير الداخلية السيد لطفي بن جدو على خلفية تسريب إعلامي لوثيقة سرية أرسلتها المخابرات المركزية الأمريكية لمصالح وزارة الداخلية التونسية تحذر فيها من إمكانية تعرض المناضل العروبي محمد البراهمي لعملية اغتيال من جهات جهادية .
وتأتي هذه المطالبات على خلفية أن المراسلة المذكورة أرسلت للداخلية التونسية بتاريخ يوم 14 يوليو 2013 أي قبل أسبوعين فقط من عملية الاغتيال التي راح ضحيتها المناضل المذكور مما يحمل وزارة الداخلية المسؤولية الأخلاقية والسياسية والأمنية في هذا الاغتيال السياسي الجبان الذي حدث ظهر يوم 25 يوليو 2013.
وهذا يعني حتما أن هذه المراسلة المخابراتية السرية تم التغاضي عنها أمنيا ولم تأخذ على محمل الجد وأنه كان بإمكان المصالح الامنية التونسية تجنب هذا الاغتيال لو قامت بالإجراءات اللازمة ووفرت حراسة أمنية لصيقة للمناضل والناشط السياسي محمد البراهمي المغدور في وضح النهار بطلقات نارية أمام بيته وعلى مرأى من زوجته وأبناءه .
إن هذه الوثيقة المخابراتية المسربة لم تصدم المعارضة التونسية فقط بل صدمت كل الشعب والرأي العام التونسي لأنها تمثل أول وثيقة مخابراتية تم تسريبها إعلاميا في تونس منذ الاستقلال كما أن هذه المراسلة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك تواجد المخابرات الاجنبية فوق الاراضي التونسية وتتمتع بحرية الحركة والنشاط والاستقصاء وبل وقادرة على تجميع المعلومات السرية والدقيقة والتي قد لا تكون في متناول الاستعلامات المحلية وهو أمر جلل يؤكد أن ذهبنا إليه في مقالات سابقة أن تونس بعد الثورة أصبحت مرتعا لكل أجهزة المخابرات الاقليمية والدولية بما في ذلك رأس الافعى المخابرات الصهيونية و التي تعمل على التأثير على مسارات الانتقال الديمقراطي في تونس وخدمة أجندات دولية
و ليس خافيا على المتابعين للشأن التونسي تواجد أغلب رجال مخابرات القذافي في تونس بعد سقوطه كما أن المخابرات السورية لها موطن قدم في بلادنا عن طريق التونسيين الذين درسوا في سوريا واعتنقوا عقيدة حزب البعث دون أن ننسى المخابرات الايرانية والتركية والجزائرية والفرنسية أما تواجد الموساد الصهيوني فحدث ولا حرج فهي من أوائل الاجهزة المخابراتية التي وضعت لها موطن قدم قار في تونس يعود الى القرن الثامن عشر ويكفي هنا أن أشير أن عملية قصف حمام الشط بتونس في غرة أكتوبر 1985 وكذلك عملية اغتيال ابو جهاد فوق الاراضي التونسية سنة 1989 لا يمكن أن يتما أبدا بدون تنسيق ودعم لوجيستي ومخابراتي على الارض
إن المخابرات الاجنبية من كل الأصناف تغلغلت داخل الاحزاب السياسية وداخل ما يسمى المنظمات الاهلية وحتى النقابات العمالية لم تسلم من الاختراق وأصبح بعض الشخوص الاعلامية والرموز السياسية يتبجحون بقولهم في بعض المنابر الاعلامية ( أخبرني مصدر أمني بكذا وكذا ) أو ( معلوماتي صحيحة من مصادر أمنية موثوقة ) ونحن نعلم جيدا أن المصادر الامنية هي مصادر مخابراتية بامتياز وتسريب هذا الكم من المعلومات الامنية تلفزيا وإذاعيا سواء كانت صحيحة أو مغلوطة هي بمثابة استعمال المخابرات لتقنية ( بالون الاختبار ) لقياس ردود الافعال السياسية والشعبية إزاء هذه الاخبار ليتم إعادة تكييفها حسب المقتضيات حتى تصبح النفسية العامة والشعور الجمعي متفهم وقابل لما هو آت .
إن التفكير بحكمة وروية وربط الخيوط المتشابكة في تونس يجعلنا نميل إلى الاعتقاد أن موجة الاغتيالات في تونس لها علاقة وطيدة بمحاولات ضرب المسار الانتقالي سواء كانت هذه المحاولات من قوى عظمى أو من دول عربية ديكتاتورية منزعجة وخائفة مما هو آت والطريقة الخبيثة التي يتم بها تحويل مسار التحقيق في القضية والبحث عن الجاني الى المطالبة لحل المجلس التأسيسي وكل المؤسسات المنبثة عنها والدعوة للانقلاب يجعلنا نشك ألف مرة في أن يكون الفاعل الحقيقي هو من مكونات المشهد السياسي التونسي سلطة أو معارضة فتواتر الاحداث وتنوع المطالبات السياسية البعيدة عن معرفة الجاني الحقيقي تفكرنا بعملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري التي استغلت سياسيا وكانت التهمة في كل مرة توضع فوق رأس خصم سياسي لبناني محلي أو في جلباب طرف مذهبي في صراع مع المنظومة الاقليمية
إن المطالبات المتشنجة بعد كل اغتيال بإسقاط المسار الانتقالي وإلغاء كتابة الدستور الجديد والعودة لدستور 59 وتحويل كل السلطات الى حكومة تكنوقراط أو حكومة كفاءات تؤكد لنا أن أطراف أجنبية لا يمكن أن نحددها بوثوق تعمل على إفشال التجربة التونسية ومستعدة من أجل الوصول إلى ذلك بالقيام بكل الاعمال الاجرامية اللازمة ومن هنا تكمن خطورة تغلغل المخابرات الاجنبية في تونس لأنه بان بالكاشف لكل ذي بصيرة أنها تعمل على إعادة سيناريو الانقلاب المصري وذلك ليس بطريقة عسكرية دموية بل بطريقة مدنية ناعمة ومن هنا تكمن خطورة ما يحدث في تونس هذه الايام
بقلم عادل السمعلي
كاتب من تونس
[email protected]