اوباما كير والبيروسترويكا

بقلم: أسامه الفرا

اعتادت الولايات المتحدة الأمريكية على توجيه رسائل إلى دول العالم، وعادة ما تحمل لغة الرسائل التدخل الفج في شؤون الدول الداخلية، بل احياناً تأخذ طابع التهديد والوعيد لها "على عينك يا تاجر" من منطق أنها شرطي العالم الذي يضبط ايقاع الجميع طبقاً لمصالحه، وليس أمام هذه الدول سوى السمع والطاعة، والدول المستضعفة عادة ما ترتعد مفاصل أنظمتها إذا ما جاءت أمريكها على ذكرها بكلمات مقتضبة في بيان للبيت الأبيض أو حتى من خلال موظف صغير بوزارة الخارجية الأمريكية، وعادة ما تطالب الإدارة الأمريكية في رسائلها للدولة المستهدفة بضرورة احترامها للديمقراطية وحرية الرأي والتعبير وحقوق الانسان والشفافية والمحاسبة، والمؤكد أن الإدارة الأمريكية لا تبحث عن تطبيق هذه القيم النبيلة في تلك الدول، بل تشكل هذه القيم البوابات التي تدخل أمريكا من خلالها لتلك الدول لفرض ارادتها عليها بما يحقق مصالحها السياسية والاقتصادية.


اخر تلك الرسائل جاءت على لسان الناطقة باسم الخارجية الأمريكية، تضمنت ضرورة أن تعمل الحكومة السيريلانكية على توسيع الشفافية والمحاسبة في مؤسساتها، يبدو أن أمريكا اليوم لم تعد امريكا الأمس، أو على الأقل ان الدول الصغيرة لم تعد تخشى أوامر الشرطي التي تحمل الكثير من العنجهية والصلف، أوسع الصحف السيريلانكية انتشاراً حملت افتتاحيتها العنوان التالي "علينا اعادة تغليف النصيحة الأمريكية بشأن الحكم الرشيد وإعادتها للمرسل"، رد الصحيفة السيريلانكية جاء من واقع الأزمة المالية التي تعيشها أمريكا، وإن كانت الأزمة المالية نتاج الصراع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، إلا أنها دفعت بالعديد من مؤسسات الدولة لأن تغلق ابوابها، وأرغمت اوباما على قطع زيارته إلى دول شرق آسيا، ويبدو أن مصادقة الكونغرس على الميزانية دخل مرحلة ثني الذراع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي.


أوباما قدم مشروع الميزانية متضمناً مشروعه للضمان الصحي "أوباما كير"، وهو ما يتطلب رفع سقف المديونية الامريكية، الجمهوريون من جانبهم يرفضون ذلك جملة وتفصيلاً، ويطرحون بنود صرف اخرى، واضح أن المصالح الحزبية باتت هي اللاعب الأساس في معادلة مشروع الميزانية المطروحة على الكونغرس، حدة الصراع أحبطت إقرار ميزانية مصغرة تكفل للدولة تسيير أعمالها بشكل مؤقت، صحيح ان الأزمة المالية ازمة مفتعلة من الحزبين، ولكن من قال أن إحتمال تصاعدها غير وارد؟، خاصة أذا ما علمنا أن متوسط الانفاق اليومي للحكومة الأمريكية في حدود 60 مليار دولار، طبعاً الأزمة المالية الأمريكية تنعكس على العالم بأسره، وفد تصل إرتداداتها إلى إنهيار اقتصادات دول سواء القريبة منها أو البعيدة، لكن يبقى الأهم هو تاثيرها الداخلي، وهل يمكن أن تفتح الأزمة المالية شهية ولايات أمريكية للمطالبة بالإستقلال كما حصل في دول الاتحاد السوفيتي.


البيروسترويكا "إعادة البناء" طرحها الرئيس السوفيتي السابق "غورباتشوف" محور ارتكاز في برنامجه الاصلاحي لمعالجة الوضع الاقتصادي، ووافقت عليها قيادة الحزب الشيوعي الحاكم، لكن المعارضة الخفية لها جاءت ايضاً من داخل الحزب الشيوعي، صحيح أن الوضع الاقتصادي للاتحاد السوفيتي في تلك الحقبة كان يعاني الكثير، لكن ما اتضح بعد تحلله وتفككه إلى دول أنه كان يملك من المقومات الاقتصادية ما يجنبه الانهيار، الانهيار جاء من داخل الحزب الشيوعي "الحديدي" حيث لعبت المصالح الشخصية داخل قيادة الحزب الشيوعي دوراً كبيراً في الانهيار، كان أبرزها الموقف الذي اتخذه يلتسين في تشجيع دول الاتحاد السوفيتي على إعلان إستقلالها، وقيل يومها أن يلتسين أراد أن ينتقم بذلك من غورباتشوف الذي عمل على إبعاده من قيادة الحزب في الانتخابات الأخيرة التي سبقت انهيار الاتحاد السوفيتي، وكان قرار يلتسين برفع علم روسيا القيصرية بألوانه الثلاثة بدلاً من علم الاتحاد السوفيتي "المنجل والمطرقة" على المؤسسات الرسمية ما يوحي بذلك، وهو بذلك فتح الباب أمام دول الاتحاد السوفيتي لاعلان استقلالها.


فهل يتحول مشروع اوباما للضمان الصحي "اوباما كير" إلى بيروسترويكا تطيح بصاحبها وتفتح شهية الولايات الامريكية في ظل الأزمة المالية إلى إعلان إستقلالها أو التفكير به؟، خاصة وأن المواطن الأمريكي لا يكترث البتة بسياسة بلاده الخارجية، بقدر ما يعنيه بالمقام الأول والأخير وضعه الاقتصادي ومتطلبات معيشته، وسواء تفاقمت الأزمة المالية وتحولت إلى كرة ثلج حتى السابع عشر من الشهر الجاري أم تم إحتواء الأزمة بتراجع المصالح الحزبية أمام المصلحة العليا، فالمؤكد أن الولايات المتحدة لم تعد "بعبع العالم"، ولم تعد قادرة على تنفيذ سياساتها ومخططاتها في العالم من مشرقه إلى مغربه، من الواضح أنها في طريقها للفشل في مشروعها للشرق الوسط، ولم تفعل شيئاً لايران وملفها النووي، وعجزت عن الاطاحة بالنظام السوري، وغادرت العراق وهو بؤرة مشتعلة، وعاودت تفاوض حركة طالبان التي لطالما حملتها وزر الارهاب في العالم بأسره، ولم تستطع حماية أنظمة كانت تدور في فلكها، لتؤكد بذلك مقولة " اللي متغطي بالأمريكان عريان"، لعل في هذا ما دفع في الآونة الأخيرة دولاً مستضعفة لأن تشق عصا طاعتها.
[email protected]