شدني حنين الطفولة ومآسيها وحلوها ومرها ،أن أقوم بجولة تفحصيه ناقدة ، ووجدت نفسي أتجول داخل أزقة مخيم البريج وبالتحديد بلوك 1 هذا البلوك الذي لن أبالغ إن قلت انه الأكثر كثافة سكانية في العالم قياسا بمساحته الضيقة ، وكثافته السكانية العالية ، لذا يستحق الدراسة كنموذج متفرد ، في كافة الأصعدة ..
بلوك 1 - حقا يحتاج إلى علماء الجغرافيا والطوبوغرافيا ، وتصميم خرائط معقدة ومتشابكة للوصول إلى أزقته وفتحاته ومداخله ومخارجه الضيقة جدا ..
كتبت هذه السطور إلى إخواني وأصدقائي العرب أو الفلسطينيين المقيمين خارج حدود فلسطين ، وعليهم أن يتخيلوا المنازل المتلاصقة والمسقوفة بألواح من مادة الإسبستوس المحرمة ضمن الاتحاد الأوروبي ،أو صفائح من الزينجو القديم ، تخيلوا معي منازل متلاصقة غير صحية لا يدخلها الشمس ، والإضاءة ضعيفة ، حتى أنى زرت احد بيوت بلوك 1 في وضح النهار فشعرت أنى ادخل كهف وظلمات ، وطلبت إضاءة لكي أتعرف وأصافح الجالسين ..
هناك ثمة مشكلة حقيقية ، في بلوك 1 بالبريج ، بيوت مبنية منذ الخمسينات ، ومتلاصقة ، بنيت لاستئناس اللاجئين بعضهم ببعض وخوفا وهربا من بطش العدو الصهيوني ..
صدقوني إن قلت أن بعض شوارع البلوك لا يتعدى نصف متر أو بضعة سنتمترات ، حتى الأهالي يجدوا صعوبة حقيقية في إخراج موتاهم أو إدخال حاجيات وأثاث منازلهم !
وما أثار انتباهي وربما إعجابي أن احد أهالي بلوك 1 ، أن رجل بسيط يجلس أمام كشك بسيط تم تفضيله على شكل عربة يبيع للمارة شاي وقهوة ، ليحصل على قروش يسد بها جوعه وتغنيه عن التسول ، يكتب على عربته (من راقب الناس مات هما ) ، وبينما شحت وجهي إلى الشارع العام المتاخم للمخيم، وجدت أحد أمراء التجارة مسرعا بسيارة (الكايا) مكتوب عليها (كايداهم ) فضحكت ولعنت المفارقة ؟!
خرجت من وسط بلوك واحد ، وانتابني شعور غريب تذكرت حلاوة أيام المخيم القديمة، رجعت بذاكرتي إلى أيام طفولتنا في السبعينات ، تذكرت أيام جميلة خلت ، وألعابنا التي انطلقت من شعار (الحاجة أم الاختراع) حيث كان أطفال المخيم محرومين من ابسط حقوق الإنسانية والطفولة ، ونحتوا من الصخر والحجارة والمخلفات ألعابا ، ومع صعوبة الأشياء ، إلا أنهم نزعوا البسمة رغما عن الاحتلال والرجعية ، تذكرت كيف كنا نصنع من غطاء قناني المشروبات عجلات لسيارات تنكيه نصنعها بأيدينا لنسلى أيام بؤسنا وفقرنا ، وتذكرت العاب (عرب ويهود ) وتقمصنا لشخصية الفدائي الحقيقي الذي يحمل بندقيته الثورية ، ورغم أننا كنا نرسمها ونصنعها من خشب ، إلا أننا كنا نشعر أنها أكثر صدقا من بنادق اليوم ، لأنها كانت صادقة طاهرة غير ملوثة !
بينما كنت امشي سارحا سابحا في ذكرياتي خرجت من يلوك 1 ، واتجهت إلى إطراف المخيم ، وبالتحديد إلي منطقة السكة وكأني أول مرة أراها رغم اننى انتقلت إلى السكن هناك ، وجدت المفارقات العجيبة ، وتمنيت بداخلي أن تعود السنين ، ويرجع التماسك والحب المفقود ، ترجع فلسفة التسامح والتعاضد والجسد الواحد ، زمن كنا نفرح ونحزن سويا ، زمن كانت الأصنام موءودة ،وأمسكت فأسا وحفرت به عند مدخل المخيم ، فسألني عجوز ثمانينى ، عما تبحث يا بنى فى وسط الظلام ؟، فقلت له عن القيم المتبدلة ، فاطرق رأسه ثم اردفنى بالإجابة ارجع حيث تجولت في أزقة بلوك 1 ، ونادي على شهداءه القدامى ، وسلهم عن ضالتك ، وذكرني بالشهداء (داوود وموسى أبو عرمانة ، ومحمود اللري ، وانتصار الحواجري ، وفتحي الغرباوي وعبد المجيد السعيدنى ، ويوسف أبو سمهدانة ،وابوطارق عليان وشعيب النباهين) وغيرهم من مجموعات العمل الفدائي ممن قضوا نحبهم ومنهم من ينتظر
وحين غربت الشمس سمعت صوتا يخرج من شمال المخيم وآخر من جنوبه حيث قبور الشهداء والمرابطين والمهاجرين ، وتخيلت أنها تلعن الظلام ، وتلعن الانقسام ، وتنادى للأجيال صارخة ارحمونا وأريحونا في ترابنا ، متنا وتركنا لكم أن تكملوا حلمنا ففلسطين بعد تتنظر ..(مبادرة المثقفين العرب لنصرة فلسطين)